تترقب برلين وبروكسيل وعواصم أوروبية عديدة، بقلق كبير يرتقي إلى درجة التوتر جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي تجري يوم 24 أبريل/ نيسان، وسط مخاوف من سيناريو فوز مرشحة اليمين الشعبوي زعيمة حزب "التجمع الوطني" مارين لوبان على منافسها متصدر الدور الأول، الرئيس إيمانويل ماكرون، مؤسس حزب "الجمهورية إلى الأمام" الليبرالي الوسطي.
هنالك مؤشرات تجعل هذا السيناريو قائما رغم أن المتفائلين، سواء في برلين أو بروكسيل، يستندون إلى أرقام الدور الأول، حيث حقق ماكرون تقدما بهامش أكبر مما كان عليه في انتخابات 2017. بالإضافة إلى ما يُنتظر منه لتحسين أدائه باستقطاب المترددين وحث المرشحين المحافظين الذين لم يفوزوا في الدور الأول، بالتصويت له.
وإذا لم يرفع ماكرون التحدي في الدور الثاني، فسيتحول كابوس مارين لوبان الانتخابي إلى زلزال أوروبي هائل قد تصل ارتدادته إلى استراتيجية مواجهة الغزو الروسي لأوكرانيا، وكيان أوروبا برمتها ومكانتها في النظام العالمي. فهل استعدت برلين وبروكسيل لهذا السيناريو؟
صدمة الدور الأول
تُظهر ردود أفعال ساسة ألمان وأوروبيين من اتجاهات محافظة ويسارية، أن نتائج الدور الأول من انتخابات فرنسا كانت صادمة لهم.
ومن أبرز مؤشرات الدور الأول، أن أكثر من نصف الناخبين صوتوا لأقصى اليمين أو اليسار. وهو ما يكشف حدة الانقسام في المجتمع الفرنسي، ولا يبعث فقط على القلق بسبب فشل الرئيس ماكرون خلال ولايته الأولى في ردم الهوة وعدم الثقة المتفاقمة داخل فئات واسعة من المجتمع الفرنسي في السياسة وفي الوحدة الأوروبية، بل تثير الصدمة للساسة الأوروبيين الذين يهتمون بالمشهد الفرنسي. كما يقول ماركوس فيربر النائب الأوروبي عن الحزب المسيحي الإجتماعي البافاري، في تصريحات لصحيفة "تاغس شبيغل" البرلينية: "ترسم نتيجة الانتخابات صورة بلد منقسم بشدة". ويضيف النائب في البرلمان الأوروبي ويقول "حقيقة أن أكثر من 50 في المائة من الناخبين أدلوا بأصواتهم لمرشح يساري أو يميني شعبوي لا يمكن وصفه إلا بالصدمة".
وألقت وسائل إعلام ألمانية عديدة باللوم على إيمانويل ماكرون، وقالت إنه تعامل "بتعالٍ" مع الناخبين ومخاوفهم اليومية الداخلية، وظل يقدم نفسه من أعلى بصفته رئيس الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي وكزعيم عالمي يدير الأزمات وخصوصا الأزمة الأوكرانية.
ويرى محللون أن ماكرون ارتكب أخطاء عديدة في حملته في الدور الأول، فبالاضافة إلى تركيزه على ملفات السياسة الخارجية على حساب القضايا الداخلية، وطريقة تفاعله مع الناخبين، يواجه معضلة تغير مزاج الناخبين الفرنسيين في نظرتهم إليه كرئيس كان يمثل في انتخابات 2017 صوت الجيل الصاعد والتفاؤل. والآن يُنظر إلى حصيلته في خمس سنوات من الحكم، بشكل نقدي، في قضايا عديدة داخيلة بالأساس، مثل التداعيات الاجتماعية للأزمات وملف رفع سن التقاعد.
وما يضاعف المخاوف في الجولة الثانية للاقتراع، هو الانهيار شبه التام للأحزاب التقليدية في اليمين المحافظ واليسار الاجتماعي، وهو ما تفسره نسبة الأصوات الضعيفة التي حصل عليها مرشحو الأحزاب المحافظة والاشتراكيين، مقابل النسبة المرتفعة التي حصل عليها مرشح أقصى اليسار، زعيم حزب "فرنسا الأبيّة" جون لوك ميلونشون، والتي تجاوزت خُمس أصوات الناخبين. وهو ما سيجعل موقف هذه الكتلة الناخبة مؤثرا بشكل كبير. ورغم دعوة ميلونشون لعدم التصويت لمرشحة اليمين المتطرف، لا يُستبعد أن يصوت لها بعض ناخبيه. خصوصا أنه لم يدعو صراحة للتصويت لماكرون، كما أن لوبان ركزت حملتها بين الفئات الفقيرة والمتوسطة المتضررة من أزمات جائحة كورونا وحرب أوكرانيا والسياسات الليبرالية، وهي فئات تشكل تقليديا القاعدة الانتخابيةة للأحزاب اليسارية.
كما استفادت لوبان في حملتها الحالية من دروس انتخابات 2017، بعدم التركيز على قضايا الهجرة والإسلام، التي احتلت مكانة أساسية في حملة اليميني المتطرف الآخر إريك زمور. وهو وضع يقلل من النظرة السائدة بعدائها للمهاجرين والمسلمين، ويمنحها فرصة الاستفادة من أصوات فئات منهم.
مفعول الدومينو؟
في مقال لها في العدد الجديد لمجلة فورين أفيرز Foreign affairs الأمريكية، تتساءل الخبيرة الأمريكية تانيشا فاسل، أستاذة العلوم السياسية في جامعة مينوسوتا الأمريكية، عما إذا كانت حرب أوكرانيا، تعني تجاوزا لحقبة العولمة التي قامت على فرص التأثير الاقتصادي والوصول إلى المصالح في أي مكان من العالم دون حاجة للجوء إلى القوة. كما قامت على فكرة مناهضة الحروب والغزو العسكري التي بزغت بعد الحرب العالمية الثانية وظهور معادلة توازن الرعب بين القوى النووية في حقبة الحرب الباردة.
الخبيرة الأمريكية مؤلفة كتاب "موت الدولة" State Death الحائز على جوائز مرموقة، ترى في مقالها، أن مستقبل النظام العالمي بات إلى حد كبير رهنا بنتائج حرب أوكرانيا، وبأن العوامل والقواعد التي طالما حفزت القوى العظمى لتجنّب الحروب في المستقبل، والحفاظ على الحدود الدولية بين الدول، باتت في مهب الريح بسبب الغزو الروسي للجارة أوكرانيا. وفي مقدمة تلك القواعد فكرة التجارة الحرة والوصول إلى موارد الدول الأخرى والمصالح بدون اللجوء إلى القوة، التي تقوم عليها العولمة.
حرب أوكرانيا، تحدث زلزالا في الدول التي كانت تشعر بأن حدودها آمنة، ولاسيما تلك التي تقع في شرق أوروبا وعلى حدود روسيا بالخصوص، وأبعد من ذلك فقد "أصبحت الدولة نفسها سلعة ذات قيمة متزايدة" تقول الخبيرة الأمريكية، محذرة من أن ذلك ينتتج عنه "شعور متزايد لدى مواطني تلك الدول بالقلق بشأن مستقبل بلدانهم"، ولهذا فإن مستقبل النظام العالمي يتوقف على مصير أوكرانيا بعد الغزو الروسي.
لكن إذا كان فزع عدد من الدول الاسكندنافية ودول البلطيق وشرق أوروبا مما يحدث في أوكرانيا، هو ما يدفع الآن فنلندا والسويد إلى التفكير في الخروج من حالة الحياد والانضمام إلى حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي ضاعفت من نفوذها في أوروبا في خضم أزمة أوكرانيا، فهل يعني ذلك بالضرورة تقوية للاتحاد الأوروبي. بعض المؤشرات تُظهر أن مستقبل الاتحاد الأوروبي ليس آمنا، فقد حظي اليميني المحافظ فيكتور أوربان رئيس وزراء المجر، صديق الرئيس بوتين، بثقة الناخبين لولاية رابعة على التوالي.
وفي فرنسا، البلد الذي توجد به ثقافة سياسة "الاستقلالية" عن حلف الناتو منذ زمن الزعيم المحافظ الراحل الجنرال شارل دوغول، تظهر مؤشرات تصويت الناخبين في الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، أن قضايا السياسة الخارجية والدفاعية التي ركز عليها ماكرون في حملته الانتخابية، لا تحظى بالأولوية في اهتمامات الناخبين، بقدر ما يهتمون بمشاكل داخلية في صدارتها ارتفاع أسعار مواد الطاقة والغذاء مقابل تراجع القدرة الشرائية والتأمين الاجتماعي، وهذه القضايا تعتبر من تداعيات حرب أوكرانيا، وقد وظفتها مارين لوبان في حملتها، وتمكنت بفضلها من تقليص الفارق في النقاط مع ماكرون.
بل إن الناخبين لم يكترثوا كثيرا بحملة انتقادات شنها عليها خصومها عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الإجتماعي، مثل توزيع منشور يظهر مصافحتها للرئيس بوتين، ومعلومات عن تلقي حزبها تمويلا بقيمة 9 ملايين يورو من بنك روسي سنة 2014. ورغم أن لوبان انتقدت الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أنها لم تكن تخفي منذ سنوات عداءها الصريح لحلف الناتو وتتوعد بسحب القوات الفرنسية من هيكل قيادة الحلف.
وقد ذهبت صحيفة "واشنطن بوست" في افتتاحيتها لعدد أول (11 أبريل/ نيسان) إلى اعتبار فرنسا "جبهة جديدة لمكافحة البوتينية (سياسة بوتين)"، ورأت أن فوز لوبان سيكون "دعما رمزيا وموضوعيا" كبيرا لبوتين.
وهكذا يمكن أن يتجاوز مفعول فوز لوبان برئاسة فرنسا، من تداعيات مباشرة على منظومة العقوبات ضد روسيا، إلى إحياء دور اليمين الشعبوي والمتطرف في أوروبا بعد أن تراجع تأثيره إبان جائحة كورونا وكذلك خلال حرب أوكرانيا، وأبعد من ذلك إلى مفعول الدومينو في تفكيك الاتحاد الأوروبي. وإذا حدث ذلك فإن مكانة أوروبا التي منيت قبل عامين بضربة كبيرة بفعل بريكست، ستتراجع على المستوى الجيواستراتيجي دوليا وفي محيطها الإقليمي، مثل القارة الأفريقية والشرق الأوسط.
هل الاتحاد الأوروبي مهدد بسيناريو حالة "فوضى"؟
ورغم تخليها عن خططها السابقة للانسحاب من منطقة اليورو وسداد ديون فرنسا بالفرنك الفرنسي، تعهدت لوبان بقطع المساهمات في خزائن الاتحاد الأوروبي. وفي حالة فوزها ستتسبب زعيمة اليمين الشعبوي في إدخال التكتل الأوروبي في ما يشبه غرفة إنعاش لمدة خمس سنوات. إذ ستكون لوبان حليفة للزعيمين المجري والبولندي اليمنيين الشعبويين، ويمكن أن يشكلوا جبهة لعرقلة إصلاحات الاتحاد الأوروبي، وهو ما أكده لويس لايوت نائب رئيس حزب "التجمع الوطني" في تصريح أدلى به لـ"فرانس انفو" بعد يوم واحد من الدور الأول للانتخابات.
ودور فرنسا المؤسس والقيادي في الاتحاد الأوروبي، سيكون له وقع أكبر، فإذا قامت بأي عرقلة فلن يؤدي فقط، برأي محللين، إلى عرقلة عملية اتخاذ القرارات داخل الاتحاد الأوروبي، بل إلى شلل شامل في الاتحاد. ويذهب الكاتب الصحفي الألماني لوكاس زيغو في مقال افتتاحي بصحيفة" فرانكفورتر روندشو" إلى توقع سيناريو "فوضى سياسية" في الاتحاد الأوروبي.
وهذه الفوضى لن تقتصر على تضارب سياسات التكتل وأداء الأعضاء الـ 27 في الاتحاد تحت وطأة نزعات وطنية ضيقة ومصالح متعارضة، بل أيضا في المستوى القيادي، إذ يمكن أن تضع لوبان باريس في مسار تصادمي مع المفوضية الأوروبية التي تقودها الألمانية المحافظة أورسولا فون دير لاين.
ناهيك عن تفكيك "المحرك" القيادي التي تمثله تاريخيا ألمانيا وفرنسا، كقوة اقتصادية ومحور استراتيجي ومرجعية في القيم الأوروبية، رغم ما يعتري هذا المحرك - أصلا - من ارتباكات وأعطاب في كثير من الأحيان. فالمستشار الاشتراكي الديمقراطي، أولاف شولتس سيكون في طرف نقيض مع رئيسة فرنسية ذات توجهات يمينية شعبوية.
ومن الطبيعي أن يكون في صلب التناقضات التي تنتظر الاتحاد الأوروبي في حال فشل الرئيس ماكرون يوم اقتراع 24 أبريل/ نيسان، ملفات: العقوبات الأوروبية ضد روسيا وقضايا الهجرة وسياسة التجارة العالمية والطاقة وخطط إصلاح المؤسسات الأوروبية، إضافة إلى السياسة الدفاعية.
فقد كان ماكرون يتطلع إلى بناء سياسة دفاعية أوروبية مستقلة، وكان ينتظر موافقة ألمانيا المتحفظة تقليديا في المجال العسكري، بيد أن تداعيات حرب أوكرانيا غيرت السياسة الدفاعية الألمانية 180 درجة، وأعلنت تخصيص مائة مليار يورو لتسليح الجيش الألماني وتحويله إلى قوة أوروبية "متقدمة" كما عبر عن ذلك المستشار شولتس. وهو ما يحمل رياحا مناسبة للسفينة الأوروبية إذا ما فاز ماكرون. لكن المعضلة الأوروبية ستكون كبيرة إذا فازت لوبان.
وبرأي جون أسلبورن، عميد الدبلوماسية الأوروبية، الذي أمضى فترة طويلة كوزير لخارجية لكسمبورغ، فان الوضع "مقلق للغاية"، لأن تولي لوبان رئاسة فرنسا "لن يكون فقط تغييرا جذريا في أوروبا كمشروع قيم وسلام، بل سيأخذنا إلى مسار مختلف تماما عن طبيعة الاتحاد الأوروبي"، داعيا الفرنسيين لمنع وقوع ذلك.
طوارئ في بروكسيل وبرلين!
منذ ظهور نتائج الدور الأول من الانتخابات وحصول مرشحي اليمين الشعبوي، مارين لوبان وايريك زمور، على حوالي ثلث أصوات الناخبين، بدأت تلوح في كبريات العواصم الأوروبية أجواء قلق من سيناريو فوز لوبان.
ورغم وجود تفاؤل في برلين وبروكسيل بقدرة الرئيس ماكرون على هزيمة مرشحة اليمين الشعبوي، إلا أن مصدر القلق يكمن أيضا في أن الأوروبيين لا يبدو أنهم مستعدون جيدا لسيناريو فوز لوبان. ومن هنا انطلقت أصوات في برلين وفي البرلمان الأوروبي تطالب بضرورة وضع خطط طوارئ وبدائل لمواجهة السيناريو الكابوس.
النائب عن حزب الخضر الألماني راينهارد بوتيكوفر يرى أن ألمانيا وأوروبا ليست مستعدة لفوز لوبان. وفي تصريح لصحيفة "تاغس شبيغل" لم يخف النائب في البرلمان الأوروبي خشيته من أن يؤدي ذلك إلى "انهيار الاتحاد الأوروبي". فبدون فرنسا التي تسعى لدفع الاتحاد الأوروبي إلى الأمام، لا يمكن لماكينة الاتحاد أن تعمل.
ويبدو الساسة الألمان ونظراؤهم الأوروبيون، أقرب إلى وضعية رُبّان فاقد للبوصلة والحيلة في مواجهة منطقة مخاطر عالية دخلتها فرنسا، وستُكشف أسرارها يوم 24 أبريل/ نيسان، ومن ثم تُحاول النخب المؤيدة للوحدة الأوروبية من مواقعها في برلين وبروكسيل، توجيه النصائح لماكرون لتدارك السلبيات التي وقع فيها في الجولة الأولى وإعادة كسب ثقة الناخبين الذين لم يصوتوا له، كما توجه دعوات للأحزاب والنخب الفرنسية المؤيدة للوحدة الأوروبية للاصطفاف وراء ماكرون وقطع الطريق على لوبان التي ترمز إلى هدم البناء الأوروبي.
منصف السليمي