تحليل: طوفان الغاز المكتشف في مصر وعوائده على "غلابتها"
١٧ مارس ٢٠١٩أي طوفان من الغاز الطبيعي هذا الذي تزخر به المياه المصرية في البحر المتوسط! الاحتياطات التي تم اكتشفاها حتى الآن هناك وفي شرق المتوسط تنبئ بتحول تاريخي في سوق الطاقة التي تدخل مرحلة حقبة الغاز مع بدء غروب شمس حقبة النفط. وتتوقع هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن يكفي الغاز الذي تم العثور عليه مصر وفي شرق المتوسط لتلبية الطلب الإقليمي والأوروبي على مدى عقود.
بالنسبة إلى مصر يبدو أن الأمر أكثر من "تسجيل هدف" كما قال الرئيس السيسي بعد توقيع اتفاق مع إسرائيل يؤهل مصر لتكون مركزاً إقليمياً للطاقة. والسيسي الذي وعد المصريين بالرفاهية أكثر من مرة دون تحقيقها حتى الآن يستطيع اليوم التباهي بثروة الغاز كما تباهى بمشاريع أخرى مثل توسيع قناة السويس وبناء عاصمة جديدة. لكن وبغض النظر عن الموقف من السيسي وسياساته الشمولية فإن مصر ينطبق عليها اليوم المثل الذي يقول: "رب صدفة خير من ألف ميعاد". هذه الصدفة لا تتمثل في اكتشاف حقل "ظهر" البحري للغاز الذي يعد باحتياطيه البالغ 30 تريليون قدم مكعبة من أكبر حقول الشرق الأوسط فقط، بل تبعه إعلان شركة أيني الإيطالية قبل أيام معدودة عن اكتشاف حقل جديد في "منطقة امتياز نور" البحرية باحتياطي يتجاوز 60 تريليون قدم مكعبة لتكتمل جائزة الحظ السعيد مع الغاز الطبيعي بالنسبة لبلاد النيل.
مصر كمركز إقليمي للطاقة
بعد بدء ضخ الغاز من حقل "ظهر" البحري تحولت مصر في غضون أقل من سنتين من بلد مستورد للغاز إلى بلد مصدر له اعتباراً من أوائل العام الجاري. ويزيد حجم صادراتها اليومية حالياً على مليار قدم مكعب يومياً. ومن المتوقع مضاعفة هذا الرقم أواخر العام الجاري. حسب وزير البترول المصري طارق الملا ومصادر الشركات المشغّلة للحقل. ومع بدء عمليات الحفر لاستغلال الحقول المكتشفة تذهب كل التوقعات إلى أن مصر ستصبح في غضون أقل من عشر سنوات أحد أهم منتجي ومصدري الغاز في العالم. ويدعم هذه التوقعات اتفاق لتصدير 70 مليار مكعب من الغاز الإسرائيلي عن طريق منصات الغاز المصرية. كما يدعمه اتفاقيات لتعاون مصري قبرصي مشابه. يضاف إلى ذلك أن مصر تمتلك أضخم وأهم محطتين جاهزين لتسييل الغاز وتصديره من شرق المتوسط إلى أوروبا والعالم.
تحول زلزالي على حساب السعودية وروسيا؟
يشكل طوفان الغاز الذي يتفجر من الحقول المصرية وحقول شرق المتوسط بشكل يحبس الأنفاس خبراً غير سار للدول المصدرة، وخاصة لروسيا التي تمد أوروبا بثلث احتياجاتها من الغاز الطبيعي عن طريق أنابيب تعبر شرق أوروبا وبحر البلطيق. غير أن الخطر الحقيقي على حصة روسيا مرتبط بتطوير تقنيات تسييل الغاز وبمد أنابيب من مصر وشرق المتوسط قادرة على إيصال الغاز المتوسطي بسعر منافس لنظيره الروسي الأنسب سعراً حتى الآن مقارنة بالغاز القطري أو الأمريكي الذي يحاول دخول السوق الأوروبية بشكل أقوى. وعلى ضوء السعي الأوروبي المتزايد والمدعوم أمريكياً لتقليص الاعتماد على الغاز الروسي، فإن تحالفاً مصرياً-شرق أوسطي مع أوروبا يلوح في أفق سوق الطاقة رغم مخاطر الإرهاب والنزاع القبرصي اليوناني على حقول الغاز المكتشفة في المياه القبرصية.
ومن شأن الحلف ذلك أن يقلل من نفوذ الدول النفطية الخليجية ومعها منظمة أوبك في هذه السوق، لأن الغاز طاقة نظيفة وأقل تكلفة. وإذا كانت دول الخليج لا تسطيع فعل الكثير إزاء ذلك سوى زيادة ضخ النفط أو تقليصه حسب توجهات السعر، فإن روسيا بدأت فعلياً بمد أنابيب ضخمة لنقل غازها إلى الصين وإلى تركيا تحسبا لعواقب لا تحمد عقباها على ما يبدو.
هل يعيد الغاز لمصر دورها الإقليمي؟
وإذا كان طوفان النفط في مصر وشرق المتوسط سيء بالنسبة للمصدرين الرئيسيين، فإنه قد يشكل نعمة لمصر والمصريين. هذه النعمة تضع مصر على طريق "النمو والثروة والنفوذ" في الشرق الأوسط حسب تقرير مطول لصحيفة نيويورك تايمز في الثالث عشر من شهر آذار/مارس الجاري 2019. ومما يعنيه ذلك أن الرئيس السيسي سيصبح شريكاً لا غنى عنه بالنسبة إلى أوروبا على حد قول الصحيفة. وعلى ضوء ذلك يمكن القول أن القاهرة يمكن أن تعود إلى لعب دورها السياسي في منطقة الشرق الأوسط كما كان عليه الحال في خمسينات وستينات القرن الماضي بعيداً عن نفوذ البترودولار السعودي والخليجي الذي حوّل مصر إلى بطة عرجاء في المنطقة. الجدير ذكره أن نفوذ مصر السياسي في الشرق الأوسط ضعيف حالياً مقارنة مع نفوذ تركيا والسعودية وإيران لدرجة أن دولة صغيرة مثل قطر أضحت أكثر حضوراً وفاعلية على الساحة السياسية والاقتصادية والإعلامية العربية والدولية.
على الصعيد الاقتصادي ساعدت طفرة الغاز التي بدأت فعليا في مصر على تعزيز الوضع المالي غير المستقر في بلد مثقل بالديون، لأن ذلك سيوفر عليه مليارات الدولارات التي كان يصرفها لاستيراد مصادر الطاقة. كما أن تحويل وسائط النقل والمصانع ومحطات الطاقة إلى العمل بالغاز سيوفر مليارات أخرى تساهم في إعادة التوازن إلى الميزان التجاري الذي يعاني العجز المزمن. ومع عودة هذا التوازن يستقر سعر صرف الجنيه المصري وتتراجع نسبة التضخم التي زادت على 20 بالمائة خلال العام الماضي 2018. غير أن عوائد ثروة الغاز التي تطال بعض قطاعات الاقتصاد الكلي، لم تصل بعد إلى جيوب المصريين ولم تساهم في تحسين مستوى حياتهم بكل ملموس بسبب استمرار ارتفاع الأسعار ونسب التضخم.
أين الرئيس السيسي من وعوده؟
وهنا يطرح السؤال نفسه، هل يمكن للثروة الجديدة أن تغيّر حياة غالبية المصريين فعلياً من خلال تحسين مستوى الخدمات العامة وخفض معدلات الفقر والبطالة التي تطال أكثر من ثلث المصريين، لاسيما الشباب منهم؟ الجواب على ذلك باختصار هو بنعم، ولكن شريطة استغلالها بحكمة وتقاسمها بعدالة. الرئيس السيسي وعد المصريين بالرفاهية والقضاء على الفقر وأحياء الصفيح قريباً، غير أن فترة حكمه حتى الآن تميزت بتقشف قاس طال غالبيتهم في ظل تضخم مرتفع وتراجع في قيمة العملة وتخفيض للدعم الحكومي على السلع الأساسية. كما أن نظرة على تجربة مصر حتى الآن في مجال تقاسم فوائد وعوائد الثروات القومية لا تشجع على التفاؤل. ومن الأمثلة على ذلك تبديد مليارات الدولارات من عوائد طفرة الغاز أيام الرئيس الأسبق حسني مبارك عن طريق الرشوة والمحسوبيات والصفقات المشبوهة مع إسرائيل وشركات الطاقة. وبغض النظر عن قيام الرئيس عبد الفتاح السيسي بإقالة هذا المسؤول أو ذاك بتهم التلاعب بالمال العام والتسبب بكوارث ورائها السرقة والإهمال، فإن منظومة الفساد والإفساد بأوجهها المختلفة ما تزال متفشية.
ومن هنا يطرح السؤال نفسه كيف يمكن للسيسي الوفاء بوعوده في القضاء على العشوائيات والفقر ومكافحة البطالة إذا لم يتم كسر هذه المنظومة وتدمير دعائمها والأسس المولدة لها في النظام السياسي وتشابكاته مع مؤسسات دولية تغطي على التجاوزات والسرقات بأشكال تبدو وكأنها قانونية؟ ولا يقل أهمية عن ذلك القيام بإصلاحات تفسح المجال أمام تعددية سياسية تنافسية ودولة قانون تكفل الحريات الأساسية للمواطن وتدافع عنها.
إبراهيم محمد