يبدو أن حرب ليبيا هي الصراع المسلح الوحيد في العالم الذي لم توقفه جائحة كورونا، بشكل جزئي أو شامل. معظم النزاعات سواء في الشرق الأوسط أو أفريقيا أو مناطق أخرى من العالم، خمدت أو على الأقل جمدت مؤقتا، استجابة لنداءات دولية بوقف إطلاق النار أو بحكم الاضطرار تحت وطأة تفشي الوباء.
والمفارقة أن النزاع الليبي، وقبل ان تستفحل أزمة كورونا، كان المرشح الأقرب للتسوية بناء على المساعي الحثيثة التي بذلت في مؤتمر برلين في بداية السنة الحالية. ولكن ما حدث على الأرض، أن جبهات المعارك اشتعلت بشكل واسع ومتسارع، وحملت معها متغيرات جديدة، تبعث على التساؤل عن الدوافع أو العوامل التي تقف وراءها، وعن المآلات والسيناريوهات التي يمكن أن تسفر عنها في المدى القريب والبعيد.
المجازفة في زمن كورونا
تفيد أرقام الهيئات الصحية في ليبيا، أن تفشي وباء كورونا ما يزال محدودا جدا، ولا يتجاوز عدد الإصابات بالفيروس ستين حالة، وهو الأقل في منطقة شمال أفريقيا. ولا يمكن الجزم بمدى دقة هذه الحصيلة، في بلد تمزقه الحرب ولا توجد به سلطة مركزية تسيطر على كامل البلاد، ولا هيئات دولية او مستقلة تستطيع رصد كافة المعطيات المتعلقة بحجم انتشار الوباء في البلد.
ويبدو أن عامل الجائحة قد أربك حسابات أطراف الصراع المباشرين وداعميهم، وجعل نسبة المجازفة عالية في اتخاذ قرار تصعيد الحرب أو تهدئتها، ففي الوقت الذي يمكن أن يعتقد طرف ما أن ظروف الوباء تفرض التهدئة، يمكن أن يذهب طرف مقابل في أن انتشار الوباء فرصة لمباغتة الطرف الآخر. ناهيك على أن الامدادات العسكرية سواء اللوجستية أو البشرية، يمكن أن تتأثر بإجراءات الحجر الصحي والطوارئ وإغلاق الحدود، مثلا بين ليبيا ومصر.
وتظهر مجريات المعارك الدائرة في غرب ليبيا، أن القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا، تحقق مكتسبات نوعية في مدن استراتيجية منها سبراته وترهونة وغريان.
ويعتقد محللون بأن عوامل محلية وخارجية تساهم في ترجيح الكفة لصالح قوات حكومة السراج، ومن أبرزها كسب ولاءات ودعم قوى محلية قبلية ومسلحة في تلك المدن، وفي مناطق متاخمة لها مثل منطقة الزنتان التي تميل لموقف الحياد إزاء الصراع. ووجود تذمر لدى بعض القبائل والمناطق التي كانت تحت سيطرة قوات حفتر من أسلوبها في التعامل مع أبنائها وتجنيدهم إجباريا.
وتحدثت بعض التقارير المحلية في ليبيا، عن احتمال وجود صراعات بين بعض القيادات المحلية في قوات حفتر، وصعوبات في إحداث التجانس بين وحدات قتالية تعتمد في تركيبتها على مزيج من ولاءات محلية وميليشيات أو عناصر مرتزقة من بلدان أفريقية مجاورة.
وفي مؤشر على تسارع مجريات الحرب، يبدو أن الجنرال حفتر سعى إلى دعم صفوف قواته بعناصر جديدة اعتمادا على دعم روسي، إذ كشفت صحيفة "بيلد" الألمانية في عددها يوم 14 أبريل نيسان الحالي، أن مجموعة فاغنر الروسية الخاصة تقوم وبتعاون مع قوات نظام الرئيس بشار الأسد، بحملة تجنيد لمئات المقاتلين السوريين السابقين، مقابل عقود في البداية بثلاثة أشهر، ووعود برواتب تبلغ ألف دولار شهريا. وإذا أصيبوا أو قتلوا في ليبيا فإنهم أو عائلاتهم، سيحصلون على ما يتراوح بين 25000 إلى 50.000 دولار. ولم يرد تعليق رسمي من الجانب الروسي أو السوري حول هذه المعلومات.
وعلقت الصحيفة الألمانية ساخرةَََ بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"تعلّم على ما يبدو من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان..كيف يستورد هو الآخر الحرب الأهلية السورية في الحال إلى ليبيا".
ومن شأن تعزيز عناصر مجموعة فاغنر التي يرتبط مسؤولوها بدوائر قريبة من الرئيس بوتين، أن يرفع أعداد المقاتلين التابعين لها والداعمة لقوات حفتر إلى ما يناهز 1400 عنصر، بحسب التقرير الألماني، الذي يتطابق مع تقارير أمريكية سابقة، تؤشر إلى أن موسكو ترمي بثقلها في حرب ليبيا. وقد حذرت صحيفة نيويورك تايمز بأن حرب حفتر على طرابلس التي دعمها الرئيس ترامب، قد تجني روسيا ثمارها الآن.
وبالمقابل فان جائحة كورونا التي تسببت في أكثر من 2500 حالة وفاة في تركيا، لم تثن الرئيس أردوغان عن رمي ثقله بشكل أكبر في الحرب الليبية، عبر مواصلة دعمه لحكومة الوفاق الوطني بالسلاح والمقاتلين. وهنالك من يرى أن التقدم النوعي الذي تحرزه قوات طرابلس في الآونة الأخيرة، هو نتيجة للدعم التركي الذي ساهم إلى حد كبير، كما يقول بعض المحللين العسكريين، في تخفيف الضغط العسكري على العاصمة طرابلس، ووقف هجمات قوات حفتر سواء عبر الصواريخ أو الطائرات المسيرة التي تقدمها الإمارات العربية المتحدة.
كواليس الديبلوماسية التائهة
وتزامنت التطورات العسكرية الأخيرة، مع فراغ على مستوى مهمة المبعوث الأممي المكلف بالملف الليبي، المستقيل غسان سلامة. وظهور صعوبات في اختيار خليفة له، خصوصا بعد اعتراض الولايات المتحدة على المرشح الجزائري للمنصب الأممي، رمطان لعمامرة، في مؤشر قد يعني ضعف حظوظ دول الجوار المغاربي في التأثير في مسارات حل الأزمة الليبية.
وإذا كان الأوروبيون قد اتهموا بالتقاعس في وقت سابق عن لعب دور محوري من أجل وقف الحرب في ليبيا، مما فسح المجال للاعبين الروسي والتركي بتوسيع نفوذهما على مشارف أوروبا. فان مؤتمر برلين، يبدو أنه أعطى زخما للدور الأوروبي، إذ بادر الاتحاد الأوروبي وفي أوج أزمة كورونا، إلى القيام بمهمة عسكرية أوروبية جديدة لمراقبة الحظر الأممي على توريد الأسلحة المفروض ضد ليبيا، وفي أحدث اجتماع لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أعلنت ألمانيا اعتزامها المشاركة في مهمة "إيريني" بنحو 300 جندي، وطائرة استطلاع من طراز "بي3- سي" أوريون بطاقمها.
وفيما يبدو عتابا للقوى التي جازفت بتصعيد الحرب في أوج أزمة كورنا، حذر وزير الخارجية الألماني هايكو ماس تلك الأطراف، وقال إنهم يسيئون استغلال جائحة فيروس كورونا بهدف الحصول على مزايا قصيرة المدى، واصفا ذلك بأنه تصرف "غير مسؤول".
ورغم نفي ماس بأن تكون مبادرة مؤتمر برلين قد فشلت، الا أن الدور الأوروبي ما يزال محدود التأثير، بسبب ضعف القوة الدافعة لهذا الدور في ظل خلافات بين العواصم الأوروبية الأربعة: باريس ولندن وروما وبرلين من جهة وبين القوى الغربية الأخرى داخل حلف شمال الأطلسي. خلافات تنعكس ايضا وبشكل حاد في شكل انقسامات متواصلة على مستوى مجلس الأمن الدولي، كلما طرحت المسألة الليبية.
هل باتت ليبيا على حافة السيناريو الأسوأ
يرى محللون بأن الانقسام الدولي الشديد حول الملف الليبي، مرده إلى تضارب الحسابات والمصالح بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة على رقعة الشطرنج الليبية. ورغم ارتفاع تكلفة الحرب الليبية المتواصلة منذ خمسة سنوات، على المستوى البشري والمادي، فان احتياطي البلد الشمال أفريقي من موارد الطاقة وقربها من أوروبا وامتدادها جغرافيا نحو أعماق القارة الأفريقية التي يحتدم حولها الصراع بين القوى الأمريكية والصينية والروسية والأوروبية، يغري الأطراف المتصارعة بأن ترمي بثقلها في المستنقع الليبي، وهذه العوامل تجعل حسم الصراع أمرا معقدا للغاية.
لكن ما الحل؟ في ظل طول أمد الحرب والمعاناة المتزايدة للليبيين، ووجود ثغرات قاتلة في السلطتين المتناحرتين في ليبيا، فلا الجنرال حفتر الذي راهن عليه كثيرون، استطاع حسم المعركة لصالحه بعد مرور أكثر من عام على زحفه نحو طرابلس، ولا استطاعت حكومة فايز السراج، من جانبها، انتزاع دعم واضح من القوى الغربية المتشككة بسبب اتهامات بالفساد ونفوذ جماعات متشددة في صلب الميليشيات الداعمة لحكومة طرابلس.
وفي ظل تراجع قوات حفتر ومعها سيناريو السيطرة على العاصمة طرابلس، يبدو حسم المعركة صعبا للطرفين.
وعندما سُئل وزير الداخلية في الحكومة الليبية المعترف بها دوليا فتحي باشاغا، عما إذا كان طرد قوات حفتر من بلدة ترهونة الاستراتيجية الواقعة جنوب شرقي العاصمة يمكن أن ينهي الحرب الأهلية الدائرة في البلاد، اعترف باشاغا في حوار لوكالة رويترز، قائلا بأن هذا قد يكون "الخيار العسكري الأصعب" حاليا في المعركة ضد قوات "الجيش الوطني الليبي" الذي يتخذ من شرق البلاد مقرا، موضحا أن استراتيجية حكومة الوفاق بوجه عام هي استعادة السيطرة على غرب ليبيا.
ويعتقد محللون عسكريون بأن إبعاد قوات حفتر عن العاصمة طرابلس، سيجعل المعركة في الفترة المقبلة تتجه نحو محوري مواقع النفط الاستراتيجية التي يسيطر عليها حاليا الجنرال حفتر في شرق البلاد، والحدود الخارجية البرية والبحرية، باعتبارها المنافذ على الدعم والمحيط الحيوي.
وتكتسي هذه المحاور الاستراتيجية في الحرب، أبعادا سيادية، قد يسعى كل طرف لكسبها ليس فقط لحشد الدعم الخارجي وإغراء الداعمين بمكاسب أكثر في البلد الغني بثرواته وموقعه الجيواستراتيجي، بل أيضا للظهور أمام مؤيديه في الداخل وأمام المجتمع الدولي باعتباره الأكثر توفرا على مقومات رمزية سيادية واستراتيجية.
ورغم تأكيد المسؤول الليبي النافذ في حكومة طرابلس، بأنه لا يوجد حل عسكري ممكن للصراع، إلا أنه اعتبر أنه لا يمكن أيضا التفاوض مع حفتر. وهنا تكمن أيضا عقدة داخلية تضاف إلى العقد الخارجية المتشابكة في الأزمة الليبية. ذلك أن الصراع الدامي الطويل وتراكم عدم الثقة وروح الانتقام واستناد سلطة القوى المتحاربة على حاضنات قبلية وجهوية في غياب مقومات الدولة المركزية، باتت مجتمعة تشكل شرخا عميقا بين طرفي النزاع، وبأن التوصل لتسوية سلمية يعتبر مهمة شاقة للغاية إذا لم تكن شبه مستحيلة.
ومن هنا يخشى كثير من الليبيين بأن المنعطف الذي تدخله حاليا حرب ليبيا، قد ينزلق نحو الأسوأ الذي طالما تفاداه الليبيون، ساسة وشعبا، وهو سيناريو تقسيم البلاد إلى قطعتين: ليبيا-الغرب وليبيا-الشرق. وقد تداول نشطاء ليبيون على مواقع التواصل الاجتماعي هذا السيناريو المتشائم وهم يعلقون على تقارير عن تقسيم أموال ليبيا المجمدة في الخارج بين حكومة السراج في طرابلس والحكومة المؤقتة في شرق البلاد.
وفي مناخ اليأس هذا وحالة الانقسام المريرة محليا وخارجيا حول المسألة الليبية، وما لم تحدث معجزة، يخشى محللون أن تتحول أدوار الأمم المتحدة والأوروبيين، من مهمة البحث عن تسوية سياسية شاملة للأزمة، إلى دور اطفائيين للحريق الذي يصل لهبه إلى سواحلهم في البحر الأبيض المتوسط، ومن مهمة مراقبة قرار الأمم المتحدة بحظر السلاح إلى أطراف الأزمة الليبية، إلى شهود طلاق بين غرب وشرق ليبيا، ودور حراس "حدود" جديدة ترسم بدماء الليبيين ودخان النفط، لتدون ميلاد دويلتين جديدتين في المنطقة بتاريخ عام الجائحة الأسوأ في تاريخ البشرية المعاصر.
منصف السليمي