بعد استقلال البلاد في عام 1962 حافظ الجيش الجزائري على مكانته الرمزية في ظل التحولات العديدة التي شهدتها الدولة الجزائرية الحديثة ومؤسساتها. بيد أن الانقلابات العسكرية التي وقعت في مطلع حقبة الاستقلال والأزمات التي واجهها النظام السياسي في العقود الأربعة الأخيرة، أظهرت في كل مرة أن المؤسسة العسكرية تقع في صلب العملية السياسية، مما جعل صورة الجيش تتآكل نسبيا مع مرور الزمن.
"الحصن الأخير"
منذ اندلاع احتجاجات الحراك الشعبي في 22 فبراير الماضي، وبتواتر تداعياتها على مكونات النظام السياسي بدءًا باستقالة الرئيس المريض والطاعن في السن عبد العزيز بوتفليقة، ووصولا إلى تفكك أجنحة حكمه الواحدة تلو الأخرى، اتجهت الأنظار بشكل متزايد إلى الدور الذي تلعبه قيادة الجيش.
فقد باتت الخرجات الإعلامية للجنرال أحمد قايد صالح رئيس هيئة الأركان وخطبه جزءًا أساسيا من مشهد جزائري تشكل مظاهرات الجمعة الحاشدة في ميادين كبريات مدن البلاد، واحتجاجات الطلاب كل ثلاثاء في العاصمة الجزائر، طقوسه الأسبوعية..
ورغم أن الدستور الجزائري لا يمنح الجيش دورا مباشرا في السياسة وينص على "الطابع الاحترافي" للجيش ودوره في "المحافظة على الاستقلال الوطني، والدفاع عن السيادة الوطنية. ووحدة البلاد وسلامتها الترابية"، فان المؤسسة العسكرية قد دأبت على التدخل مباشرة أو بشكل غير مباشر في تعيين أو إقالة الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم الجزائر منذ استقلالها. ولذلك يدرك المتتبعون لأوضاع الجزائر بأن إشارات الجنرال قايد صالح هي توجيهات لأجهزة الدولة للتحرك وفق أجندة قيادة الجيش.
لكن الطابع غير المسبوق للحراك الشعبي والذي يبدو أنه فاجأ المؤسسة العسكرية، جعل قيادتها في وضع دفاعي منذ اندلاع الاحتجاجات.. فبعد استقالة الرئيس بوتفليقة وإبعاد رموز عديدة من نظامه، دخلت قيادة الجيش في عملية تفكيك لشبكات نفوذ مالي وسياسي وأمني كانت تشكل مقومات أساسية لنظام الرئيس بوتفليقة. وتحت وطأة ضغط الشارع، تمت إقالة أو سجن عشرات المسؤولين الحكوميين والحزبيين ورجال الأعمال وقيادات أمنية واستخباراتية، وأُطيح بشخصيات من عيار رئيسي الحكومة السابقين أحمد أويحيى وعبد المالك السلال، أو الجنرال محمد مدين (الملقب بالجنرال توفيق) قائد جهاز الاستخبارات السابق، وصولا إلى سعيد شقيق الرئيس السابق بوتفليقة.. وتعددت التهم التي أحيل بها هؤلاء أمام العدالة بين الفساد المالي واستغلال النفوذ والتآمر والإساءة للجيش.
ويرى محللون بأن تقديم رجالات النظام كبش فداء وإطلاق إشارات الغزل التي يقوم بها قائد الجيش تجاه الحراك، تهدف إلى تهدئة غضب الشارع واحتواء احتجاجاته المتواصلة. وبالمقابل فإن قيادة الجيش تقاوم كي لا يتجاوز "طوفان" الحراك الشعبي سقفا معينا للتغيير السياسي، وهو ما يفسر تمسكها بالرئيس المؤقت عبد القادر بن صالح ورئيس الحكومة نور الدين بدوي. فهي عندما تتمسك بهؤلاء وغيرهم من مفاصل النظام، وبمنطق عدم الخروج عن "مقتضيات الدستور"، إنما تتمسك بسياج يحصنها من التغييرات.
شعرة معاوية بين الجيش والحراك الشعبي
بعد حوالي أربعة أشهر من الاحتجاجات يبدو الحراك الشعبي مصمما على تحقيق انتقال ديمقراطي يقود إلى إقامة "جمهورية ثانية"، وهو يرفع مطالبه دون أن يتجاوز خيطا رفيعا من احترام المكانة الرمزية للجيش.
وفي ظل المعطيات الراهنة للحالة السياسية في الجزائر، لا أحد يمكنه التكهن بمآلات العلاقة الحذرة بين طرفي الأزمة. كما لا يمكن تصور سيناريوهات مشابهة لما يحدث اليوم في السودان أو ما حدث بالأمس في مصر، وذلك لسببين على الأقل: أولهما، أن طرفي الصراع في الجزائر يدركان أهمية الحفاظ على المسار السلمي لتفادي تكرار عشرية العنف السوداء التي عاشتها البلاد. وثانيهما، أن المكانة التي يحظى بها الجيش الجزائري سواء في نظرة الشعب إليه، أوفي نظرته لدوره، ترجح مبدئيا فرضية عدم قطع شعرة معاوية مع الحراك الشعبي.
لكن بالمقابل فإن الجيش الجزائري ليس ذلك الجيش الذي يتخذ مسافة من إدارة شؤون الحكم والإقتصاد، بخلاف ما هو عليه حال الجيش التونسي مثلا، حتى يلعب دور الحارس والضامن لعملية الانتقال الديمقراطي. وهنا تكمن المعضلة التي تواجه الجزائريين في هذه المرحلة الحساسة من تاريخهم الحديث. فخلال العقدين الماضيين من حكمه، نجح بوتفليقة نسبيا في إبعاد القادة العسكريين عن واجهة الحكم وأبقى على قائد الجيش في منصب نائب وزير الدفاع الذي احتفظ به لنفسه، وبالمقابل أحاط نفسه بأجهزة استخباراتية مدنية وعسكرية.
وبعد الإطاحة بالرئيس بوتفليقة، تعرضت هذه الأجهزة وقادتها للتفكك في ظل معركة كسر العظم مع قيادة الجيش، وهو ما جعل قيادة الجيش تخرج الآن من الظل وتعود من جديد لواجهة العملية السياسية. فما هي الأوراق التي يمكن أن تلعبها؟ وما هو الثمن الذي يمكن أن تدفعه مقابل انخراطها في اللعبة السياسية؟
الجيش وتغير قواعد اللعبة
يرى مراقبون أن عودة قيادة الجيش لواجهة المشهد السياسي بالجزائر، يضعها أمام خيارات صعبة. فهي مع دخولها في عملية شد وجذب مع الحراك الشعبي، قد تكون تراهن على عامل الزمن لإحتواء مطالب المحتجين وتخفيض سقفها وفق"حدود" اللعبة كما يريدها قائد الجيش حاليا..لكن هذه العملية تنطوي على مجازفة قد يكون ثمنها أولا تآكل المكانة الرمزية التي يحظى بها الجيش، وثانيا أن يكون ثمن مشاركة الجيش في عملية الانتقال الديمقراطي هو قبوله بقواعد اللعبة الديمقراطية، وذلك بأن يُعاد النظر في دوره ووظيفته وأن يخضع بالتالي لعملية إصلاح وإعادة تأهيل ليصبح جيشا محترفا لا يتدخل في شؤون الحكم الذي تتولاه حكومة مدنية منتخبة.
ورغم الأهمية التي يحظى بها الجيش الجزائري مقارنة بنظرائه أفريقيا أو عربيا، إذ تضعه تقارير عديدة كأقوى جيش في القارة السمراء والسابع عشر عالميا - بحسب تصنيف المعهد الدولي لبحوث السلام في ستوكهولم - إلا أن الجيش الجزائري يُحاط بالكثير من الغموض وغياب دراسات وأبحاث دقيقة حول ميكانيزمات تطوره الداخلي ودوره في الاقتصاد والسياسة.
وبحسب تقارير وتحليلات بعض الخبراء، فان الجيش الجزائري لا يشذ عن مؤسسات الدولة الجزائرية من حيث اعتماده على الريع وعائدات المحروقات. ورغم سعي بوتفليقة المستمر خلال فترة حكمه إلى تقليص الدور المباشر للعسكر في الحكم، فقد شهدت نفقات الجيش نموا غير مسبوق، وتقدر ميزانيته بحوالي حوالي 12 مليار دولار، أي ما يعادل 25 في المائة من ميزانية الانفاق العام بحسب موازنة سنة 2019. وبفضل اعتماداته المالية الهائلة يساهم الجيش في خلق عشرات آلاف الوظائف سنويا ويخصص نفقات ضخمة للتسلح، وهو ما يمنحه نفوذا كبيرا في الاقتصاد والتجارة والسياسة الخارجية الجزائرية. ويلخص الخبير الألماني الجزائري الدكتور رشيد أوعيسى مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة ماغديبورغ، طبيعة الدور الذي يلعبه الجيش بقوله: "خلال عهد عبد العزيز بوتفليقة، أصبح الجيش لا يظهر اهتمامًا عميقًا بالتدخل المباشر في الشؤون السياسية، وتنامت مستويات الاحترافية. لكن هناك عنصر واحد يوحّد الضباط من مختلف الأجيال: الحفاظ على الاستقلال المالي وضمان جزء من العائدات الريعية".(المصدر موقع TSA).
وهنالك مؤشرات متباينة حول الدور الذي يمكن أن يلعبه الجيش في مستقبل الحياة السياسية بالجزائر. اذ أن هنالك من يرجح حدوث تطور باتجاه احترافي أكثر ووضع مسافة مع إدارة شؤون الحكم، ويستند هذا الرأي إلى أن الجنرال قايد صالح هو آخر رموز جيل الذين ولدوا قبل استقلال الجزائر، ونشأوا على عقيدة عسكرية لا تفصل بين الخدمة العسكرية وشؤون الحكم والسياسة. وباختفاء جيل الاستقلال يصعد جيل من الضباط والقيادات الشابة التي تميل إلى الدور الاحترافي للجيش، وقد يكون لهذا الجيل الجديد دور الآن في إدارة علاقة الاحترام المتبادل مع قيادات الحراك الشعبي.
لكن حجم انخراط قيادات الجيش المركزية وقيادات المناطق العسكرية في الحياة السياسية والاقتصادية، قد يجعل فك ارتباطها بإدارة شؤون الحكم في البلاد أمرا ليس قريب المنال. كما أن قراءة تطور الأوضاع في الجزائر في سياق ما يجري حاليا في محيطها الإقليمي المضطرب ومخاوف عواصم أوروبية وغربية من عودة الإسلاميين للواجهة، يرجح اتجاه الجيش الجزائري ليحافظ على مركزه في هيكلة السلطة، وأن يستمر في "مراقبة العملية السياسية وتوجيه الانتخابات بشكل لا يؤدي إلى تغيير جذري في الحياة السياسية"، كما يقول الدكتور غونتر ماير مدير مركز الأبحاث حول العالم العربي بجامعة ماينز، في حوار لإذاعة دوتشلاند فونك الألمانية.
وبحكم الطابع المركّب والجماعي لقيادة المؤسسة العسكرية في الجزائر، فان تطور دور الجيش الذي يعيش بدوره مرحلة تحوُّل، قد يكون مزيجا بين هذه الفرضيات وذلك بهدف الحفاظ على التوازنات داخله بين أجيال القيادات وبين الخلفيات السوسيوثقافية والمناطقية التي تتشكل منها النخبة العسكرية في قمة هرم المؤسسة.