السودان - من قبضة البشير إلى قبضة صندوق النقد؟
١٨ يوليو ٢٠٢١يبدو السودان هذه الأيام في مقدمة البلدان الفقيرة التي تحظى بدعم سريع وسخي من صندوق النقد الدولي والمؤسسات الأخرى التي تدور في فلك الغرب. ويمثل الاتفاق الذي تم عقده قبل بضعة أيام بين الخرطوم ونادي باريس أحدث خطوات الدعم الذي تنازل بموجبه الأخير عن القسم الأكبر من ديونه للسودان.
ونص الاتفاق الذي وصفه رئيس النادي ايمانويل مولان بأنه "تاريخي" على شطب أكثر من 14 مليار دولار من ديون السودان للنادي والبالغة 23.5 مليار دولار. ويأتي ذلك في إطار عملية أوسع يرعاها صندوق النقد الدولي بهدف تقليص الديون الخارجية للسودان بنسبة 90 بالمائة حتى 2023. وتقدر مجمل هذه الديون بنحو 60 مليار دولار غالبيتها متأخرات تشمل فوائد غير مدفوعة ورسوم تأخير عن السداد مستحقة للدول الغربية ودول خليجية. وتشكل هذه الديون أكثر من 175 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بنحو 34 مليار دولار خلال العام الماضي 2020. ومما يعنيه ذلك أن السودان أيضا من بين أكثر دول العالم التي تعاني من المديونية الخارجية.
دعم سخي بشكل غير مألوف
وإضافة إلى شطب الديون بشكل سريع وسخي غير مألوف، تمت مؤخرا تسوية متأخرات السودان بقيمة 5.6 مليار دولار لصندوق النقد والبنك الدوليين والبنك الأفريقي للتنمية من خلال إعادة جدولة وتقديم قروض جديدة، غير أنها قصيرة الأجل. كما تعهدت دول أوروبية وعربية، من بينها فرنسا وألمانيا والإمارات، بتقديم مزيد من الدعم للحكومة السودانية الانتقالية التي تولت الحكم بعد إسقاط الرئيس السابق عمر البشير في أبريل/ نيسان 2019 إثر احتجاجات شعبية شهدتها الخرطوم ومدن سودانية أخرى. وفي هذا الإطار أعلنت الحكومة عزمها إلى تطوير وتحديث شبكة السكك الحديدية بما في ذلك تشغيل 2400 كيلو متر من خطوطها المعطلة حاليا. وحتى الآن أعرب بنك التنمية الأفريقي والشركة الصينية الحكومية المحدودة للبناء وجهات خليجية عن دعمها للمشروع الذي تزيد تكلفته على 600 مليون دولار.
أية خلفيات سياسية وراء المساعدات؟
بعد إسقاط نظام عمر البشير الشمولي في أبريل/ نيسان 2019 تولت حكومة انتقالية تضم تيارات سياسية متعددة مؤلفة من مدنيين وعسكريين مقاليد الحكم برئاسة الخبير الاقتصادي السابق في الأمم المتحدة عبدالله حمدوك. وقد أعلنت هذه الحكومة عزمها على القيام بإصلاحات اقتصادية عميقة وقاسية لإخراج البلاد من عزلة استمرت سنوات طويلة.
كما وافقت الحكومة على اتفاق يقضي بتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل في مختلف المجالات. وهو الأمر الذي كافأتها عليه إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في أواخر 2020 بإزالة السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب ورفع العقوبات الاقتصادية عنه بشكل تدريجي.
وعلى ضوء هذه التطورات السياسية أصبح السودان حسب صندوق النقد الدولي مؤهلا للاستفادة من "مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون" التي تتيح تخفيف أعبائها على الدول الفقيرة والمنخفضة الدخل. وعلى ضوء هذه التطورات السياسية أقدم البنك بسرعة لافتة على إعفاء الخرطوم من سداد متأخرات متراكمة وقدم لها أيضا قرضا جديدا بقيمة 2.5 مليار دولار. وجاء هذا السخاء بعد بدء الحكومة الانتقالية بتنفيذ إصلاحات قاسية بدأتها وعلى دفعة واحدة برفع الدعم عن البنزين والديزل وتخفيض قيمة العملة السودانية بنسب وصلت إلى نحو 400 بالمائة في غضون سنة بحلول شهر أبريل/ نيسان الماضي 2021. ولكي يحصل السودان على كامل دعم صندوق النقد الموعود ينبغي عليه تنفيذ مجمل الإصلاحات التي يراها الصندوق ضرورية خلال ثلاث سنوات.
ثمن اجتماعي باهظ للإصلاح
يشكل تخفيف أعباء الديون الخارجية وإعادة تعاون السودان مع المؤسسات المالية الدولية خطوة غاية في الأهمية لتجاوز الأزمة الاقتصادية الحالية والعودة إلى مسار الاقتصاد العالمي الحالي بعد عزلة استمرت ثلاثة عقود خلال حكم الرئيس السابق عمر البشير. غير أن الثمن الاجتماعي للإصلاحات الاقتصادية السريعة التي تنوي الحكومة القيام بها عالي التكلفة ويصعب على غالبية السودانيين تحمله. ومن أبرز أسباب ذلك تراجع أداء الاقتصاد بنسبة زادت على 8 بالمائة بسبب جائحة كورونا وارتفاع أسعار الوقود إلى أكثر من الضعف واستمرار التضخم وارتفاع الأسعار بشكل أدى إلى تردي القوة الشرائية وزيادة البطالة وارتفاع نسبة الفقر في بلد موبوء بالفقر أصلا رغم غناه بالموارد الزراعية والطبيعية.
ويزيد الطين بلة غياب الخدمات العامة عن معظم المناطق وعدم وجود نظام دعم اجتماعي يساعد الأكثر فقرا على الأقل. وهو الأمر الذي دفع الكثيرين إلى التظاهر في شوارع الخرطوم والمدن الأخرى مجددا أواخر الشهر الماضي يونيو/ حزيران احتجاجا على الإصلاحات التي يرعاها صندوق النقد الدولي. ومع الاستمرار في هذه الاصلاحات القاسية دون بدائل للمتضررين سيعني ذلك المزيد من السخط الاجتماعي والاحتجاجات التي تهدد الوضع السياسي الهش في هذا البلد الذي يعاني أيضا من نزاعات في بعض أقاليمه وخارجيا من نزاعات مع الجيران كالخلاف مع أثيوبيا بسبب سد النهضة الذي يقلص حصة السودان من مياه النيل الأزرق الذي يشكل المصدر الرئيسي لمياه الشرب والري.
ضعف أداء الاقتصاد يكرّس التبعية
مما لا شك فيه أن السودان بحاجة إلى إصلاحات اقتصادية عميقة فاتها القطار منذ سنوات. غير أن مثل هذا الإصلاح ينبغي أن يسير بالتوازي مع إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية التي ينخرها الفساد وسوء الإدارة منذ عقود. كما ينبغي أن يتم بالتوازي مع ضخ استثمارات في البنية التحتية والخدمات الأساسية تساعد على إنعاش الاقتصاد وتحسين مقومات العيش وليس إلى مزيد من البطالة والفقر وهجرة الكفاءات. ومن الملفت هنا غياب الخطط والبرامج التي تبشر بمثل هذا الانعاش باستثناء مشروع تطوير السكك الحديدية المذكور أعلاه.
ومن بين المشاكل الأساسية أيضا استغلال بعض الموارد الطبيعية المتاحة بشكل سيء وينطوي على كثير من الهدر. ولعل خير مثال على ذلك ما يحصل في القطاع الزراعي الذي لا يتم استغلال سوى خُمس طاقته حتى الآن. ومن هذا الخُمس يضيع ويتلف ثلث المحاصيل بسبب غياب أماكن التخزين وإمكانيات النقل والتغليف وعلى منوال مشابه يسير استغلال موارد أخرى. وبالنتيجة فإن السودان الذي بإمكانه التحول إلى سلة غذاء عالمية يدفع القسم الأكبر، أي 28 بالمائة من قيمة مجمل وارداته على الأغذية.
وفي ظل استمرار وضع كهذا لن يستطيع الاقتصاد توليد قيمة مضافة عالية للتحديث والتطوير اللازمين. أما القروض الجديدة والقصيرة فسوف تضطر الحكومة إلى صرف القسم الأكبر منها على دفع متأخرات الدين، في حين ستتصرف الإدارات الحكومية التي تعاني الفساد بالقسم الباقي. ويعود السبب الأساسي لهذا الاضطرار إلى تدني الاحتياطات المالية إلى مستويات قياسية قدرتها المؤسسات الألمانية للتجارة والاستثمار بنحو 130 مليون دولار فقط خلال العام الماضي 2020. وفي ظل سيناريو كهذا يمكن القول أن السودان سينتقل على الأرجح من قبضة النظام الشمولي للرئيس السابق عمر البشير إلى قبضة صندوق النقد الدولي والمؤسسات الرديفة المانحة السيئة السمعة في البلدان الفقيرة والنامية.
ابراهيم محمد