تحليل: الجنيه المصري ينهض وجيوب المصريين تفرغ!
٢٠ يناير ٢٠٢٠على عكس جميع العملات العربية تستعرض العملة المصرية ثباتها وعضلاتها أمام الدولار الأمريكي بشكل غير متوقع. يأتي ذلك في وقت اعتقد فيه خبراء قلائل أن الجنيه المصري سيتمكن مجددا من تعزيز موقعه أمام الدولار الأمريكي بعد الانهيار الذي شهده إثر تعويمه أوائل نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. فبعد التعويم ببضعة أسابيع تراجعت العملة المذكورة أمام الأخضر الأمريكي بشكل مخيف وخسرت 100 بالمائة من قيمتها في عضون أقل من شهرين. يومها وصل سعر الدولار إلى نحو 20 جنيها في غضون أقل من شهرين مقابل أقل من 9 جنيهات قبل التعويم.
بيد أن الجنيه لم يتمكن من الوقوف على أرجله مجددا خلال السنوات الثلاث الماضية وحسب، بلا ارتفع أيضا أمام الدولار الأمريكي بشكل تدريجي ليتراجع سعر الدولار إلى ما دون 16 جنيها أواسط الشهر الجاري يناير/ كانون الثاني 2020. ويتوقع خبراء أن يعزز الجنيه موقعه أكثر فأكثر خلال العام الجاري على ضوء توقعات نمو الاقتصاد المصري بنسبة تصل إلى نحو 6 بالمائة لتكون الأعلى في منطقة الشرق الأوسط.
إصلاحات اقتصادية غير شعبية
يستعرض الخبراء عوامل كثيرة وأسباب متعددة عندما يتعلق الأمر بالحديث عن سر وخلفية عودة العملة المصرية إلى استعراض عضلاتها أمام نظيرتها الأمريكية بعد مخاوف سابقة من انهيارها. ومن أبرز الأسباب التي يتم التركيز عليها قرض صندوق النقد الدولي إلى مصر بقيمة 12 مليار دولار وارتفاع عائدات السياحة وقناة السويس وتحويلات المصريين في الخارج والدعم السعودي والإماراتي المالي لمصر.
غير أن هذه الأسباب ما كانت ستساعد على تعزيز قوة الجنيه لولا إصلاحات اقتصادية جريئة وغير شعبية في عهد الرئيس السيسي رغم الجمود السياسي والتراجع في الحريات منذ مجيئه إلى السلطة. ومن تبعات هذه الإصلاحات تقليص دعم الوقود والمياه والكهرباء والمواصلات والخدمات الأخرى مقابل البدء بدعم المنتج الزراعي ومنتجات صناعية مع الحرص على تقديم الدعم الحكومي بشكل أكثر عدالة بحيث يطال من يستحقه بالدرجة الأولى.
سوق ناشئة بمخاطر أقل
كما توجهت الحكومة مؤخرا إلى تقليص فاتورة المستوردات من السلع الكمالية مقابل زيادة الصادرات المصرية بقيمة وصلت إلى نحو 7 مليارات دولار بين 2016 و 2018. وانخفضت قيمة الواردات بدورها لتصل خلال العام الماضي إلى أكثر من 5.5 مليار دولار حسب نشرة مؤسسة التجارة والاستثمار الألمانية. وساعد على ذلك بشكل أساسي تقليص فاتورة المستوردات من السلع اليومية والوقود، لاسيما بعد بدء استغلال الغاز في البحر المتوسط مقابل السواحل المصرية.
ومما لا شك فيه أن استثمارات أجنبية مهمة تدفقت إلى البورصة المصرية وشركات الطاقة مؤخرا على ضوء تراجع معدلات التضخم وارتفاع معدلات الفائدة والآفاق الواعدة لاستخراج المزيد من احتياطات الغاز. ومع ارتفاع معدلات النمو إلى أكثر من 5 بالمائة خلال العامين الماضيين وفرص تحقيقها لمزيد من الارتفاع هذه السنة تتعزز ثقة رجال الأعمال والشركات بالاستثمار في السوق المصرية، لاسيما وأن الفوائد والعوائد أعلى من مثيلتها في أسواق ناشئة أخرى كالسوق التركية أو الأرجنتينية.
كما أن درجة المخاطر أقل على ضوء الضمانات التي تقدمها الحكومة وتعزيز التعاون السياسي والاقتصادي بين مصر وإسرائيل وقبرص واليونان بدعم قوى من دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها ألمانيا وإيطاليا.
رغم معدلات النمو الأعلى في الشر ق الأوسط والتحسن النادر في المؤشرات الكلية للاقتصاد المصري وزيادة ثقة المستثمرين به، فإن ثمار هذا التحسن لم تصل سوى إلى نخب غنية قليلة العدد ومتشابكة المصالح ومتحكمة بالقرار السياسي والاقتصادي.أما غالبية المصريين فما تزال تعاني من ضعف القوة الشرائية وارتفاع الأسعار، إضافة إلى زيادة نسبة الفقر من 28 إلى 32.5 بالمائة خلال عامي 2017 و 2018. وهنا يسأل الناس لماذا تبقى الأسعار مرتفعة رغم تراجع معدلات التضخم وتحسن سعر صرف الجنيه؟
تظهر خبرات جميع الدول أن الأسعار في حالة تحسن سعر صرف العملة إما أن تستقر أو يتراجع بعضها بشكل طفيف وبطئ للغاية بشكل لايكاد يلمسه المستهلك. وبالنسبة إلى مصر فإن الذين يتحكمون بعرض السلع من التجار والجهات الحكومية يستطيعون فرض الأسعار بشكل إداري بسبب غياب شروط المنافسة القائمة على تكافؤ الفرص في الإنتاج والعرض.
ورغم الاستقرار السياسي النسبي هناك مخاوف عند الكثيرين من خضات سياسية مفاجئة واندلاع احتجاجات شعبية تعرقل التجارة والأعمال. وهذا ما يدفع محتكري إنتاج وتسويق السلع وخاصة التجار منهم إلى اقتناص أعلى سعر في أقصر وقت ممكن. كما أن التاجر الذي استورد بالأمس بضاعة على أساس دولار بسعر 17 جنيها يرفض بيعها على أساس دولار بسعر 16 جنيها وخاصة إذا كانت السوق خالية من بضاعة منافسة لها بسعر أنسب وبنوعية متقاربة.
أهمية كسر أشكال الاحتكار
من هنا فإن تخفيض الأسعار بشكل يتناسب وتحسن سعر العملة مرتبط بمدى كسر كل أشكال الاحتكار من قبل فئات قليلة العدد من التجار وممثلي قطاع الدولة لإنتاج وتسويق السلع. وهو أمر لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تعزيز دور القطاع الخاص في عملية الإنتاج السلعي والخدمي بشكل لا يقتصر على العاصمة المصرية ومحيطها، فالعنصر الحاسم في الأمر يكمن في النجاح على صعيد إقامة آلاف لا بل عشرات آلاف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تنمي الموارد المحلية وتوفر المنتج المحلي المنافس بأنواع متعددة وأسعار منافسة في الريف والمدينة.
حتى الآن بقيت نتائج الجهود المصرية في مجال تشجيع هذه المؤسسات ضعيفة أو متواضعة. غير أن الوضع ينبغي أن يتغير الآن. ويبدو أول الغيث في قرار حكومي يقضي بخصخصة جزئية تشمل 30 مؤسسة عامة وإلزام البنوك المصرية بتخصيص 20 بالمائة من قروضها للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. إنه قرار صائب ولو جاء بشكل متأخر، غير أن العبرة في التطبيق لاسيما وأن تجارب السنوات الماضية أتت بنتائج ضعيفة لأسباب عديدة من أبرزها الفساد المستشري في الأجهزة القائمة على تقديم القروض وسوء استخدامها دون ضوابط تحد من ذلك. ويزيد الخوف من صعوبة التطبيق الجمود السياسي الذي لا يوفر الإطار الملائم لازدهار المبادرات الشابة والخلاقة.
ابراهيم محمد