تحليل: اقتصاد تونس يحتاج للتروي في سياسات رفع الأسعار
٧ يوليو ٢٠١٨تونس والسياحة صنوان لا يفترقان، فإذا جنحت السياحة فيها نحو التحسّن، فإن اقتصادها يجنح بدوره نحو التعافي والازدهار. أما السبب في ذلك فيعود إلى أهمية السياحة في الحالة التونسية كونها القطاع الأكثر تحفيزاً للدخل والنمو وتوفير فرص العمل في الزراعة والنقل والصناعات الاستهلاكية والتجارة الداخلية وقطاعات أخرى.
تفيد آخر المعطيات المتوفرة أن القطاع السياحي التونسي سجل نسبة نمو وصلت إلى 46 بالمائة خلال النصف الأول من العام الجاري مقارنة بنفس الفترة من 2017. وخلال العام الفائت استقطبت تونس لأول مرة منذ 2014 حوالي 7 ملايين سائح بفضل قدوم المزيد من السياح وخاصة من الجزائر وروسيا. وهناك تحسّن ملموس في الصادرات مجدداً، الأمر الذي أدى إلى إشاعة أجواء التفاؤل بعودة عجلة الاقتصاد إلى مستوى ما قبل عام 2011 وتحسّن المستوى المعيشي الذي تدهور بفعل سياسات رفع الأسعار ونسب التضخم العالية. وتقدر مصادر متعددة وصول هذه النسبة إلى أكثر من 6 بالمائة أو أكثر خلال كل سنة من السنوات الأربع الماضية وهو الأمر الذي هوى بقيمة الدينار وبالقوة الشرائية لغالبية التوانسة.
مطالب إصلاح مبالغ فيها
في الوقت الذي تشير فيه المعطيات والأخبار التي يتناقلها زائر تونس هذه الأيام إلى انتعاش ملموس في الاقتصاد هنا وهناك، تعمل حكومة الائتلاف الحالي برئاسة يوسف الشاهد على رفع أسعار المزيد من السلع الضرورية كالمحروقات واتخاذ المزيد من الخطوات التقشفية بهدف تقليص عجز الموازنة في إطار خطة الإصلاح الاقتصادي التي يراقبها ويباركها صندوق النقد الدولي ومؤسسات دولية مانحة أخرى. وإذا ما ألقى المرء نظرة على قائمة الإصلاحات التي يطالب بها الصندوق، وتكيل لها بعض الصحافة والجهات الغربية أطناناً من المديح بشكل مبالغ فيه، فإنه سيصاب بالدهشة والصداع. فالقائمة لا تشمل فقط رفع الأسعار والخصخصة وفرض المزيد من الضرائب والرسوم، بل أيضا المزيد من التسهيلات الجمركية للواردات وتحسين مناخ الاستثمار والخصخصة وتسريح عشرات الآلاف من العاملين في أجهزة الدولة والقطاع العمومي والقائمة تطول وتطول. أما المثير للصداع أكثر فهو اتساع دائرة المطالب في هذا الوقت الحساس جدا لتحقيق نمو يعزز دعائم ديمقراطية وليدة كالديمقراطية التونسية.
الإصلاح بين الضرورة والتوقيت
من الناحية النظرية لا نجادل في أهمية التقشف ورفع الأسعار وخطوات الإصلاح الاقتصادي الأخرى لبلد كتونس مثله مثل جميع الدول العربية بلا استثناء. غير أن الأهم من ذلك والذي ينبغي الجدال فيه هو اختيار التوقيت المناسب لها على مبدأ المثل الشامي الذي يقول: "كل شيء في وقتله حلو أو جميل". من جهة أخرى لا بد من التحضير لاستيعاب التبعات المالية والاجتماعية المترتبة على تنفيذ الإصلاحات المذكورة. ومن الأسئلة الملحة التي تطرح نفسها هنا، ماذا سيكون مصير ملايين التوانسة جراء رفع أسعار المزيد من المواد الاستهلاكية دون تحسين دخولهم؟ وماذا سيكون مصير مئات الآلاف الذين ينبغي تسريحهم جراء تقليص العاملين في إدارات الدولة وفي المؤسسات التي ينبغي خضوعها للخصخصة؟ ففي ظل غياب نظام تعويض عن البطالة يحمي من الجوع وضمانات اجتماعية أخرى حيوية سيعني ذلك بالطبع مزيد من الفقر والعوز والاحتجاجات الشعبية التي تهدد بنحر الديمقراطية التونسية الوليدة، ومن المؤكد أن ذلك ليس في مصلحة تونس ولا غالبية المانحين لها؟
أين الدعم الغربي للديمقراطية الوليدة؟
إن تونس وأي بلد له ظروف مشابهة لا يمكن له القيام بالإصلاحات الاقتصادية بمفرده، لأن ذلك يحتاج إلى مليارات الدولارات لاستيعاب التكاليف الاقتصادية والاجتماعية لعملية الإصلاح. كما يحتاج إلى فترات تصل إلى ما لا يقل عن 10 سنوات لتهيئة الشركات والمؤسسات الاقتصادية للمنافسة العالمية وتصحيح أوضاعها قبل خصخصتها. هذا ما أظهرته تجربة ألمانيا الغربية مع ألمانيا الشرقية سابقاً عندما قدمت لها ما يعادل عشرات المليارات من اليوروهات على مدى 25 للتعويض عن تسريح ملايين الأشخاص الذين فقدوا عملهم بعد انهيار الجمهورية الشيوعية سابقاً، ومن أجل تحديث بنيتها التحتية. وهو الأمر الذي أظهرته أيضا تجربة الاتحاد الأوروبي مع الدول التي عانت من تشوهات في اقتصادياتها مثل إسبانيا وإيرلندا والبرتغال قبل انضمامها إليه.
ومن هنا فإن على الغرب وفي مقدمته الاتحاد الأوروبي دعم تونس كديمقراطية وليدة على غرار دعمه لهذه الدول بدلاً من تركها تستسلم لوصفات صندوق النقد الدولي وضغوط الجهات المانحة من خلال القروض التي تتراكم بالمليارات سنة بعد سنة.
الجدير ذكره هنا المنح السنوية الأوروبية لتونس بقيمة 100 إلى 170 مليون يورو سنويا لا تغطي سوى جزء يسير من تكاليف عميلة الإصلاح المطلوبة. في هذه الأثناء تقدر أوساط حكومية تونسية الحاجة إلى 3 مليارات دولار هذه السنة للوفاء بالالتزامات المالية.
الحل في التروي
تشير معطيات الأشهر الماضية إلى عودة تونس إلى انتعاش اقتصادي لابد من الحرص الشديد على استمراره بسبب الحاجة الماسة لدفع معدلات النمو والحد من الفقر والبطالة. ومما لاشك فيه أن اللجوء إلى مزيد من الدين الخارجي والمبالغة في رفع الأسعار وتردي القوة الشرائية للتوانسة وزعزعة الثقة بعملتهم وغير ذلك من خطوات تقشفية أخرى ستؤدي إلى خنق هذا الانتعاش في مهده، لأن الاستثمارات ستتراجع وتكاليف الإنتاج ترتفع والصادرات تتراجع وسيكون الانكماش مصير كل من السوق والاقتصاد. ومن هنا فإن على الحكومة الحالية برئاسة يوسف الشاهد أن تكون في غاية الحذر من الوصفات الخارجية والوعود بقدوم الاستثمارات الأجنبية كشرط للالتزام بها.
وهنا لا بد من التذكير بأن دولاً مثلا تركيا والأرجنتين والبرازيل طبقت في الماضي هذه الوصفات، لتصل بعدها إلى سلسلة من الإفلاسات التي وضعتها على حافة الانهيار الاقتصادي. ومن هنا تبدو تحذيرات الاتحاد العام التونسي للشغل من زيادة الأسعار حالياً في محلها لأنها لن تزيد "إلا في إثقال كاهل عموم الشعب وفي تأزيم وضع المؤسسات الاقتصادية". ومما يعنيه ذلك أن على الحكومة التروي والقيام بعملية الإصلاح الاقتصادي خطوة فخطوة وبشكل ناجح ومدروس على ضوء التجربة العملية ودروسها.