منذ إنشائه سنة 1949 تضاعف عدد أعضاء حلف شمال الأطلسي ثلاث مرات ليصبح بانضمام السويد وفنلندا، قوامه 32 عضوا. وهو بدون منازع أكبر تكتل عسكري في العالم.
وتعتبر أوروبا القاعدة الكبرى للحلف الذي يضم 30 دول أوروبية ودولتان فقط من خارج أوروبا هما الولايات المتحدة وكندا.
ورغم أن الغزو الروسي لأوكرانيا حتّم متغيرات جديدة في استراتيجية الحلف لتعود روسيا، لأول مرة منذ الحرب الباردة، إلى وضع "العدو الأول" وتصبح منطقة شرق أوروبا وشمالها، الحقل الأكبر لعمليات الناتو ومناوراته.
إلا أن "الجناح الجنوبي" للحلف عاد إلى واجهة الاهتمام في أجندة قمم الحلف ومجموعة الدول السبع والإتحاد الأوروبي.
وتأتي قمة حلف الناتو في واشنطن بعد أقل من شهر على انعقاد قمة مجموعة السبع في منتجع بوليا جنوب إيطاليا حيث يلتقي البحر الأبيض المتوسط بالأدرياتيكي، حيث وضع قادة الدول المشاركة يضعون في صلب محادثاتهم دعم استراتيجية الناتو الجديدة الخاصة بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، والمطروحة رسميا في أجندة قمة حلف الناتو التي تلتئم في واشنطن بمناسبة مرور 75 عاما على تأسيس الحلف.
"صداع" الجنوب!
تاريخيا تنظر الولايات المتحدة والكثير من الدول الأوروبية الرئيسية في حلف الأطلسي مثل ألمانيا وبريطانيا إلى البحر المتوسط باعتباره ممرا ملاحيا أكثر من كونه منطقة حيوية. فهو الممر إلى البحر الأسود وإلى شرق البحر المتوسط بالقرب من إسرائيل، وكذلك إلى قناة السويس.
بينما كانت فرنسا الدولة الغربية الأكبر اهتماما بمنطقة البحر الأبيض المتوسط، سواء في سياستها الإقليمية عبر الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو أو في علاقاتها الثنائية بدول جنوب المتوسط وخصوصا مستعمراتها السابقة في المنطقة المغاربية ولبنان وسوريا.
بيد أن التطورات التي يشهدها العالم في السنوات القليلة الأخيرة وتداعياتها الممتدة على طول الجناح الجنوبي لحلف الناتو والإتحاد الأوروبي، أحدثت تغييرا عميقا في نظرة صناع القرار الإستراتيجي في العواصم الغربية لأهمية هذه المنطقة.
ويمكن رصد دوافع هذا التغيّر من خلال المؤشرات التالية:
أولا: ارتفاع قياسي لظاهرة الهجرة غير القانونية التي تنطلق من شمال أفريقيا ومن ورائها دول الساحل والصحراء نحو أوروبا، إذ تضاعف عدد من وصلوا إلى أوروبا خلال عام ليبلغ في نهاية سنة 2023 أكثر من 286 ألف مهاجر، أكثر من نصفهم وصلوا عبر إيطاليا.
ثانيا: أظهرت جائحة كورونا وحرب أوكرانيا، دورا استراتيجيا متزايدا للتجارة والملاحة عبر منطقة البحر الأبيض المتوسط. سواء تعلق الأمر بنقل الطاقة وأمنها أو بالحبوب وغيرها من المواد الأساسية.
ثالثا: لطالما شكلت الأزمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وصولا إلى الساحل والصحراء، مصدر تحديات أمنية لأوروبا، تحديات تكتسي أبعادا معقّدة، بدءا من موجات اللاجئين ووصولا إلى مخاطر أمنية كالجريمة المنظمة والإرهاب. وقد زادت حرب غزة وأزمتا ليبيا وسوريا وموجة الانقلابات في دول الساحل الأفريقي والحرب الأهلية في السودان، من حدة التحديات الأمنية لأوروبا.
رابعا: ترصد تقارير مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية تطورا ملحوظا في النفوذ الروسي والصيني في السنوات القليلة الأخيرة بدول شمال أفريقيا وأيضا ببعض دول البلقان. وتشير تلك التقارير إلى أن نفوذ القوتين العظميين المنافستين للولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي، تتزايد وتيرته خصوصا بالدول التي تشهد عدم استقرار داخلي مثل سوريا وليبيا ودول الساحل، ولكن أيضا في دول تعتبر حليفا تقليديا للغرب مثل تونس.
ويكتسي النفوذ الروسي والصيني المزدوج أبعادا مختلفة: دور صيني اقتصادي وإستراتيجي ناعم. بينما تقوم روسيا بأدوار أمنية وعسكرية، كما تفيد تقارير استخباراتية غربية بأن موسكو تقوم بعمليات استراتيجية هجينة عبر مرتزقة فاغنر وعمليات أخرى مثل توظيف أو تشجيع الهجرة غير القانونية نحو أوروبا.
وقد أظهرت أحداث منطقة الساحل وانتشار قوات مرتزقة فاغنر الروسية في شرق ليبيا، أن هذه التطورات تحمل معها مؤشرات تراجع النفوذ الأوروبي والفرنسي بالخصوص، كما تُنذر بمخاطر استراتيجية على مكانة الولايات المتحدة ونفوذها في المنطقة.
وفي اجتماعم التمهيدي لقمة الناتو بحث وزراء خارجية حلف الناتو مؤخرا نتائج التقرير الذي أعدته مجموعة خبراء مستقلين عن نهج الحلف مع الجوار الجنوبي وتضمن في بنوده "مدى العمل المحلي للتحديات والتي تفاقهما حاليا المنافسة الاستراتيجية العالمية والمخاطر متعددة الأقطاب مثل التغير المناخي".
وكان بيان قمة الناتو السابقة بالعاصمة الليتوانية فيلنيوس قد حذر من أن الموقف الأمني الهش في منطقتي شمال أفريقيا والساحل والصحراء يوفر أرضا خصبة للإرهاب ويسمح بتدخلات المنافسين الاستراتيجيين للحلف.
وثمة مؤشرات على القلق الغربي المتزايد من تحركات روسيا بالمنطقة. ففي نهاية أبريل/ نيسان الماضي حذر قائد قيادة العمليات في الجيش الألماني، الجنرال بيرند شوت، من "النفوذ العسكري الروسي المتزايد" في دول إفريقية من بينها ليبيا، وقال في تصريح لوكالة الأنباء الألمانية إن نية روسيا الأصلية في ذلك هي سد الثغرات ذات الصلة بالسياسة الأمنية في ظل الفراغ الحالي وهي تحاول قلب الوضع لصالحها ودرء النفوذ الغربي.
وجاءت تحذيرات الجنرال شوت إثر تقرير نشرته قناتا "WDR" و"NDR" العموميتان، كشف عن تحركات ميدانية روسية في شرق ليبيا تؤشر إلى قيامها ببناء قاعدة بحرية هناك.
وقبل أسبوعين فقط، تداولت وسائل إعلام أوروبية وغربية على نطاق واسع معلومات أوردتها صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية أفادت من خلالها بهبوط "طائرات عسكرية روسية" خلال الأسبوع الثالث من شهر مايو/ أيار، بمطار جربة الواقع على بعد 130 كيلومترا من الحدود الليبية.
وفيما نفت تونس وجود عناصر فاغنر أو مرورهم بأراضيها، نقلت "لاريبوبليكا" عن وزارة الخارجية الأمريكية، تعلقيها على الموضوع: "ما زلنا نشعر بالقلق بشأن أنشطة مجموعة فاغنر وتلك التي تدعمها روسيا في القارة الأفريقية، والتي تؤجج الصراعات وتشجع الهجرة غير النظامية، بما في ذلك إلى تونس".
مفهوم جديد لاستراتيجية الناتو
بينما يتعزز حضور الناتو في الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط ويعمق شراكاته مع حلفاء من خارج الحلف في جنوب وشرق المتوسط، تتزايد التحديات الأمنية وتزداد المنافسة مع روسيا والصين شراسة.
وتشكل الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، عنصرا حيويا في بنية الحلف، وهي من الشرق تركيا واليونان، ثم إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، وغربا البرتغال (المحيط الأطلسي)، وتضاف إليها دول البلقان حديثة العضوية: كرواتيا وألبانيا ومقدونيا الشمالية ومونتنيغرو (الجبل الأسود).
وسيتخذ الحلف خطوة مهمة للأمام عندما يتبنى لأول مرة على الإطلاق "استراتيجية الجناح الجنوبي" خلال قمة واشنطن. وخلال لقاءات عقدها ينس ستولتنبرغ الأمين العام المنتهية ولايته لحلف الناتو مع جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية خلال قمة مجموعة السبع، طلب منها المساعدة في تعزيز الحضور النشط للحلف في أفريقيا بما في ذلك في مجال التدريب الأمني.
وحسب وثيقة "مستند وقائع: قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في مدريد" نشرته وزارة الخارجية الأمريكية على موقعها، يحدد "المفهوم الاستراتيجي المهام الأساسية لحلف الناتو، مثل الردع والدفاع ومنع الأزمات وإدارتها والأمن التعاوني". كما يؤمّن المفهوم الجديد "استمرار الحلف في تطوير الأدوات المناسبة والاستجابات الجماعية للتهديدات العابرة للحدود الوطنية مثل الهجمات السيبرانية والتداعيات الأمنية لتغير المناخ".
وتشير الوثيقة بأن المفهوم الجديد يدرك أيضا "قيمة نهج الأمن البشري لعمل الحلف، على غرار حماية المدنيين أثناء النزاع ومنع العنف الجنسي ذي الصلة بالنزاع والتصدي له." وتشمل أهداف الاستراتيجية الجديدة: حماية القيم والمؤسسات الديمقراطية. ومواجهة الهجمات السيرانية والهجينة التي تستهدف الدول الديمقراطية العريقة والناشئة.
وضمن استراتيجيته الجديدة سيسعى الحلف لزيادة موارده والحفاظ على ريادة الغرب التكنولوجية. وضمن بنود الاستراتيجية الجديدة مكافحة تغير المناخ وتعزيز المرونة في مجال الطاقة وتأمينها.
كما سيعمل الحلف على توسيع شراكاته الدولية، وتقع منطقة جنوب المتوسط في صلب أجندة الشراكات الموسعة.
ومن أهم ملامح المفهوم الاستراتيجي الجديد، المزيد من تنسيق سياسات التعاون الاقتصادي مع الشركاء واستراتيجيات التعاون العسكري والأمني. وهو ما يفسر كثافة التشاور والتنسيق بين المؤسسات الأوروبية وحلف الناتو في السنوات القليلة الأخيرة.
وهناك خبراء أمريكيون يحذرون من أن الولايات المتحدة لن يكون بمقدورها المشاركة بثقل كبير كما في السابق بمنطقة الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، بسبب تزايد أعباء البنتاغون وتغير أولوياته باتجاه جنوب شرق آسيا لاحتواء القوة الصينية الصاعدة عسكريا، ومخاطر اندلاع نزاع هناك حول تايوان. ناهيك عن التزامات الجيش الأمريكي في وسط وشرق أوروبا في مواجهة التهديد الروسي ومتطلبات حرب أوكرانيا.
ولا يقتصر التحذير من منعطف محتمل في الاستراتيجية الأمريكية على الصعيد العالمي، بسبب أولويات التحدي الصيني والروسي، بل أيضا لاعتبارات تتعلق بالسياسة الداخلية الأمريكية وسيناريو عودة الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترامب للبيت الأبيض، وهو قلق يشاطر فيه الرئيس حو بايدن شركاءه من القادة الأوروبيين، ويسعى لتبديده عبر المضي في إقرار استراتيجية الجناح الجنوبي في قمة واشنطن.
ويرى خبراء أوروبيون وأمريكيون بأن على الحلف أن يعتمد استراتيجية الجناح الجنوبي وفق رؤية جريئة في تعاملها مع جنوب الناتو (دول الضفة الشمالية للمتوسط الأعضاء في الناتو)، والتحديات التي تواجهها من الجنوب أي من جنوب المتوسط. كما يرون بأنه آن الأوان لزيادة كفاءة الجيوش الأوروبية وتحديث ترسانتها.
ويعتبر تحديث الجيش الألماني وتطوير كفاءاته القتالية وتجهيزاته، ليس هدفا استراتيجيا ألمانيّا فحسب، بل يعتبر أوروبيا وغربيا أيضا، من أجل أمن أوروبا في المقام الأول، وفق المفهوم الذي أكده المستشار أولاف شولتس في خطابه التاريخي إثر الغزو الروسي لأوكرانيا نهاية فبراير/ شباط 2022، وقراره بتخصيص صندوق قيمته مائة مليار يورو لتحديث الجيش الألماني.
ورغم أولوية محيطها في شرق أوروبا والبلطيق أجرت ألمانيا مشاورات مع فرنسا على مستويات عالية، من أجل تقديم دعم واضح لتعزيز "الجناح الجنوبي" وتوسيع الشراكة مع دول الجنوب.
ويرى جيسون ديفيدسون الباحث في المجلس الأطلسي للدراسات الاستراتيجية، في مقال له على موقع المركز (مقره واشنطن) بأنه إلى جانب تعزيز الموارد لعملية "حارس البحر" في المتوسط وزيادة التدريب ومساعدة الشركاء الإقليميين على مكافحة الإرهاب، يجب أن تتضمن استراتيجية الجناح الجنوبي لحلف الناتو "التزاما بتعميق التعاون مع الشركاء الإقليميين من خلال الحوار المتوسطي"، و"مبادرة اسطنبول للتعاون".
كما يجب أن يعمل حلف الناتو والاتحاد الأوروبي معا في هذه المنطقة والتي يمكن أن تلعب فيها دول الجنوب الأوروبي خصوصا إيطاليا وإسبانيا، دورا أساسيا، في ضوء عضويتها في التكتلين.
تنافس فرنسي تركي وبصمات إسبانية وإيطالية
تلعب فرنسا وتركيا، أكبر عضوين من منطقة جنوب وشرق المتوسط في حلف الناتو، أدوارا كبيرة على الصعيد الأمني والاستراتيجي في منطقة شمال أفريقيا، بيد أن تلك الأدوار تأخذ في حالات عديدة طابعا تنافسيا إلى حد الاصطدام، مثلما حدث منذ عامين في السواحل الليبية على خلفية تفتيش قوات الناتو لسفينة تركية للاشتباه في خرقها حظر السلاح على الأطراف الليبية، وأعقبها انسحاب فرنسا من عمليات الناتو في ليبيا.
ويدعم الحليفان في الناتو أطرافا متصارعة في ليبيا. وتعد هذه الدولة الغنية بالنفط التي مزقها العنف في أعقاب إطاحة قوات دعمها حلف الناتو بنظام العقيد معمر القذافي في عام 2011، نقطة عبور أساسية للمهاجرين المتوجهين من أفريقيا إلى أوروبا.
وما تزال السلطة منقسمة بين حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، التي تعترف بها الأمم المتحدة، وقوات الجنرال خليفة حفتر، التي تسيطر على أجزاء كبيرة من شرق البلاد وجنوبها.
كما حدثت أزمة بين تركيا وفرنسا على خلفية النزاع التركي اليوناني حول منطقة في بحر إيجه.
وفي خضم تنافس محموم بين الحلفاء وضعف تنسيق تتجلى مظاهره في تضارب سياساتهم إزاء أزمات دول جنوب البحر الأبيض المتوسط، يبدو أن إسبانيا وإيطاليا بدأتا تخرجان عن دورهما "الخجول"، في اتجاه محاولة لعب أدوار أكثر عمقا وفعالية، عبر تجاوز المنظور الأمني التقليدي في العلاقة بالجوار في جنوب المتوسط، والقائم على مواجهة الهجرة غير النظامية ومكافحة الإرهاب.
ففي نهاية شهر يونيو/ حزيران 2021 احتضنت مدريد أول قمة لحلف الناتو تنعقد ردا على الغزو الروسي لأوكرانيا، ولعبت إسبانيا دورا نشطا في بلورة وثيقة "مفهوم استراتيجي جديد" وضعت ملامح الدور الجديد للحلف في العالم في ضوء التحديات التي أفرزها الغزو الروسي. وتضمنت الوثيقة جزءا خاصا بـ"الجناح الجنوبي" للحلف.
وقررت الولايات المتحدة توسيع قاعدة "روتا" البحرية في جنوب إسبانيا، وهي تعد واحدة من أكبر القواعد العسكرية البحرية في جنوب أوروبا، إلى جانب قاعدة نابولي جنوب إيطاليا التي توجد بها قيادة القوات المشتركة لحلف الناتو (جنوب أوروبا).
كما ساهمت أزمة الطاقة في أوروبا الناجمة عن وقف الغاز والنفط الروسي، في تزايد أهمية الدور الإيطالي والإسباني في تأمين إمدادات الطاقة إلى الشركاء في وسط وغرب أوروبا. وفي ظل تراجع الإمدادات من ليبيا، اعتمدت إيطاليا على تعزيز علاقاتها مع الجزائر في الوقت الذي تعرضت فيه علاقات هذه الأخيرة بمدريد لأزمة، بسبب التطور الذي شهدته علاقات إسبانيا بجارتها الجنوبية المغرب.
ويبدو أن حلف الناتو ومن ورائه الولايات المتحدة، يلعبان دورا مهما في تشجيع الشراكة المتنامية بين إسبانيا والمغرب والتي تحولت من منافسة ونزاعات أحيانا، إلى شراكة استراتيجية عميقة.
وعلى ما قامت به إسبانيا في قمة الناتو قبل عامين، تسعى رئيسة الوزراء الإيطالية التي ترأس الدورة الحالية لقمة مجموعة السبع للتأكيد للشركاء الغربيين الآخرين بأن البحر المتوسط حيوي بالنسبة لأولوياتهم الاستراتيجية أيضا، وبالتالي وضع ملف الأمن في البحر المتوسط كأولوية للشركاء الغربيين.
ووفي إشارة للأولوية التي تحظى بها قضايا الأمن والهجرة بالنسبة لدول "الجناح الجنوبي" في الناتو، تضع إسبانيا وفرنسا والبرتغال ضمن أولوياتها توثيق شراكاتها مع الدول المغاربية والأفريقية، وخلال قمة مجموعة السبع دعت رئيسة الوزراء الإيطالية رؤساء دول أفريقية ضمن رؤية إيطالية لزيادة الدعم الذي تقدمه مجموعة السبع للتنمية والاستقرار بدول القارة السمراء.
وكان لافتا دعوتها للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي أبرمت معه قبل عامين أكبر اتفاق بين البلدين لاستيراد الغاز، والرئيس التونسي قيس سعيّد الذي أبرمت معه العام الماضي اتفاقا لتوقيع مذكرة تفاهم مع الإتحاد الأوروبي لوقف الهجرة غير النظامية من السواحل التونسية واستقبال المهاجرين المرحلين من إيطاليا.
دول الجنوب ومسلسل إخفاقات الإندماج الإقليمي
بعد إخفاق دول الإتحاد الأوروبي في إدماج شركائها في جنوب المتوسط ضمن مسار برشلونة الذي أطلق سنة 1995، و"الإتحاد من أجل المتوسط" الذي احتضنته باريس سنة 2008، تبددت الآمال بقيام اندماج إقليمي بين ضفتي المتوسط وحتى فيما بين الدول المغاربية نفسها. إذ تفككت منظومة الإتحاد المغاربي وتصاعدت النزاعات الثنائية وخصوصا بين الجزائر والمغرب.
ورغم تنامي التحديات الاستراتيجية والمخاطر الأمنية وخصوصا التي أعقبت سنوات "الربيع العربي"، والاضطرابات التي تشهدها منطقة الساحل والصحراء، ظل التنافر هو السمة الأساسية في العلاقات بين الدول المغاربية، وأدى كل ذلك إلى المزيد من إضعاف قدراتها التفاوضية مع الشركاء في شمال البحر الأبيض المتوسط، سواء تعلق الأمر بالتعاون الاقتصادي أو الأمني والعسكري أو السياسي.
وفي ظل حالة الانقسام وغياب التنسيق بين دول الجنوب، باتت العلاقات الثنائية هي الآلية الحاسمة في مسار علاقات دول الشمال مع الجنوب. ويمكن رصد ثلاثة مسارات في العلاقات بين مؤسسات التكتل الغربي ودول منطقة جنوب المتوسط.
أولا: اتفاقيات الشراكة المعمقة
تأتي المغرب ومصر وتونس في صنف حلفاء الغرب الاستراتيجيين من خارج حلف الناتو. وتتفاوت درجات عمق هذه التحالفات كما تتفاوت مستويات الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية القائمة بين هذه الدول والإتحاد الأوروبي.
لكن الشراكة مع هؤلاء الحلفاء التقليديين للغرب، تشهد بدورها متغيرات في السنوات القليلة الأخيرة.
ففي الوقت الذي تعمقت فيه الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، شهدت علاقاته مع الشركاء الأوروبيين متغيرات إذ اتسمت علاقاته التقليدية مع فرنسا بالجمود والتوتر أحيانا، في الوقت الذي شهدت فيه العلاقات مع إسبانيا طفرة نوعية وثمة مؤشرات على تطور في نفس الاتجاه مع بريطانيا وألمانيا.
إذ تمنح الشراكة الاستراتيجية بين المغرب والقوى الغربية مزيدا من الفرص لتوسيع أدواره في القارة السمراء. وهو ما أكدته مخرجات الدورة الأولى للحوار الاستراتيجي المغربي الألماني الذي احتضنته برلين منتصف شهر يونيو حزيران الماضي.
وفيما حافظت مصر على علاقاتها الاستراتيجية التقليدية مع الحلفاء الغربيين، بدأت في السنوات القليلة الأخيرة بتوسيع شراكتها مع روسيا والصين، وخصوصا في المجال العسكري، الأمر الذي بات يثير حفيظة القوى الغربية.
ومن جهتها تجتاز علاقات تونس بشركائها الغربيين، مرحلة اضطرابات. فبعد قيام الرئيس قيس سعيّد بحل البرلمان المنتخب وإقالة الحكومة والمؤسسات المنبثقة عن دستور 2014، وإقامته نظاما رئاسويا ينفرد فيه بالحكم وتزايد انتهاكات حقوق الإنسان، تراجع الدعم الاقتصادي الغربي ودخلت مفاوضات تونس مع صندوق النقد الدولي في نفق مظلم.
وفي محاولة لمقاومة الضغوط الغربية، صعّدت الحكومة التونسية اعتراضاتها على سياسة الهجرة التي ينتهجها الإتحاد الأوروبي ورفضت القيام بدور "الشرطي" في البحر الأبيض المتوسط. ورغم الدور الذي لعبته ميلوني في سبيل توصل تونس وبروكسل لاتفاق للحد من الهجرة غير الشرعية، ما يزال الاتفاق هشّا.
وفي خطوة أخرى تحمل دلالة على محاولة الرئيس سعيّد للتجديف بسفينة تونس في اتجاه معاكس للرياح الغربية، قام بمبادرات لتطوير علاقات تونس بروسيا والصين، وهي مبادرات لم ينتج عنها لحد الآن اتفاقيات ذات ثقل في المجالات الاقتصادية أو الأمنية، إذ ما تزال مبادلات تونس مع دول الإتحاد الأوروبي تشكل 70 في المئة من مجمل مبادلاته مع الخارج. كما تعتمد تونس من الناحيتين الأمنية والعسكرية على اتفاقيات طويلة المدى تؤمن لها الدعم الأمريكي والأوروبي.
ثانيا: حوار حذر
في عام 1994 أطلق حلف الناتو مسار "الحوار المتوسطي" للمساهمة في الأمن والاستقرار الإقليميين، بمشاركة 7 دول شريكة لحلف الناتو، وهي مصر وإسرائيل والأردن وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا.
وباستثناء الجزائر، ترتبط الدول الست الأخرى باتفاقيات شراكة متنوعة مع حلف الناتو. وتطورت تلك الشراكات خلال العقود الثلاثة الماضية بدرجات متفاوتة، بينما حافظت العلاقة بين الجزائر والناتو على استمراريتها، وخصوصا فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب وتأمين الطاقة لأوروبا.
لكن مسار الحوار بين الحلف والجزائر يظل في منطقة الحوار "الحذر". فالجزائر ما تزال تحافظ على علاقات استراتيجية ذات أولوية في التجارة مع الصين شريكها التجاري الأول، وفي الجانب العسكري تحتل روسيا صدارة مزودي الجزائر بالسلاح وتصل قيمة إنفاق الجزائري السنوي على السلاح بحوالي 10 مليار دولار.
ويعتبر ملف تمركز مرتزقة فاغنر في دول الساحل بجوار الجزائر وفي ليبيا، واحدا من الملفات الشائكة في علاقات الجزائر مع الشركاء الغربيين وخصوصا فرنسا. كما يعتبر اختبارا صعبا لعلاقات الجزائر التقليدية مع روسيا.
ثالثا: احتواء المخاطر
تعتبر ليبيا، ودول الساحل والصحراءالحقل الأساسي لاستراتيجية إحتواء المخاطر التي ينتهجها الإتحاد الأوروبي وحلف الناتو بهذه المنطقة في مواجهة المخاطر الأمنية المتزايدة، وفي صدارتها الهجرة والجريمة المنظمة والإرهاب. لكن تعقيدات المشاكل بهذه المنطقة، وتزايد شراسة التنافس مع الصين وروسيا فيها، ما تزال تثير صعوبات وتحديات للدول الغربية.
كما تتسبب أحيانا في تناقضات وتضارب في استراتيجيات الحلفاء الغربيين فيما بينهم. وهو ما تسعى استراتيجية الجناح الجنوبي الجديدة إلى معالجته.
وصمن مساعيه لتطويق التطورات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء، يعمل الحلف في الفترة الأخيرة على إطلاق مبادرات للتعاون الإقليمي بين دول الساحل والصحراء وضمنها مبادرة يقودها المغرب لتنسيق التعاون للدول المطلة على المحيط الأطلسي وإدماج باقي دول الساحل ضمنها.
كما يسعى حلف الناتو والإتحاد الأوروبي في هذا السياق عن كثب إلى تطوير الشراكة الأمنية والاقتصادية مع موريتانيا بحكم موقعها الاستراتيجي على المحيط الأطلسي وبحكم موارد الطاقة التي اكتشفت في البلد الصحراوي.