بعد فضيحة "شليزنغر".. الإعلام العمومي الألماني تحت المجهر!
٢١ سبتمبر ٢٠٢٢استقالت باتريسيا شليزنغر، المديرة العامة لشبكة برلين-براندنبورغ الإعلامية العمومية (إذاعة وتلفزيون) والمعروفة اختصارا بـ "RBB"، على وقع مزاعم قيامها بدفع فواتير وجبات طعام باهظة الثمن لموظف عمومي وأيضا تسهيلها حصول زوجها على عقد استشارات مربح.
"فضيحة شليزنغر" هزت الإعلام العمومي وتركت تداعيات خطيرة إذ استغلها سياسيون شعبويون لإثارة واحدة من أكثر القضايا المفضلة لديهم ألا وهي قضية "الإفراط في الإنفاق" على هيئات الإعلام العمومي المرئي والمسموع، كما يزعمون.
ولم يضيع حزب "البديل من أجل ألمانيا AfD" اليميني الشعبوي الفرصة للقول بأن هذه الفضيحة أظهرت أن الإعلام العمومي (إعلام الخدمة العامة) "غير قابل للإصلاح" لذلك يجب إلغاؤه بشكل كامل.
في المقابل دعت الأصوات المتزنة في أحزاب الائتلاف الحاكم في برلين إلى إعادة تنظيم عمل المحطات الإذاعية والتليفزيونية العامة في ألمانيا.
وفي هذا السياق، خرج الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي)، الذي يعد المكون الأصغر في حكومة المستشار أولاف شولتس، ليدعو إلى تقليص عدد المحطات الإذاعية والتليفزيونية العامة رغم أن هذا المقترح لم يكن ضمن وثيقة الائتلاف الحكومي.
وتعرض المقترح لانتقادات من نقابات الصحافيين التي وصفته بـ "الشعبوي".
هيمنة الولايات
وتذخر ألمانيا بعدد كبير نسبيا من كيانات البث العامة بما يشمل 21 قناة تلفزيونية وقرابة 83 محطة إذاعية فيما يأتي التمويل من خلال ما يُعرف بضريبة "رسوم البث" التي تقدر بـ 18.36 يورو شهريا تدفعها كل أسرة في ألمانيا. وتصل إيرادات هذه الضريبة إلى أكثر من 8 مليارات يورو سنويا.
وفيما يتعلق بمؤسسة "دويتشه فيله DW"، فرغم أنها تنتمي للإعلام العمومي أيضا، إلا أن ميزانيتها تأتي مباشرة من الحكومة الفيدرالية وليس من خلال ضريبة "رسوم البث".
ويعود هذا التنوع الكبير في منظومة الإعلام العمومي في ألمانيا بشكل كبير إلى موطن ونشأة هذه المحطات والإذاعات.
فعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، أقدم الحلفاء الغربيون على إعادة تنظيم الإعلام في ألمانيا الغربية في المناطق التي قاموا باحتلالها حيث أدى ذلك إلى إنشاء قناة (NWDR) في شمال الراين ـ فيستفاليا التي كانت آنذاك منطقة بريطانية و(SWF) في جنوب غرب ألمانيا وكانت آنذاك منطقة فرنسية.
أما في المنطقة الأمريكية فكانت هناك أربع محطات وهي: (BR) في بافاريا و(SDR) في جنوب ألمانيا ومؤسسة (HR) في ولاية هيسن وراديو بريمن (RB) في ولاية بريمن.
وخلال الفترة ما بين عامي 1946 و1950 قام الحلفاء بتسليم هذه القنوات الإعلامية الوليدة إلى الألمان بشكل تدريجي لتصبح هذه المحطات الست هي المُؤسِسة لـ "مجموعة عمل مؤسسات البث العامة الرسمية لجمهورية ألمانيا الاتحادية" في يونيو / حزيران عام 1950.
وفي عام 1954 جرى اختصار الاسم الألماني لمجموعة البث العامة إلى ثلاثة حروف ARD، أي أنّ محطات البث العامة في ألمانيا تم دمجها في محطة جامعة وأطلق عليها القناة الأولى وتحت اسم (ARD)، واصبحت بذلك النسخة الألمانية من هيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وجرى التأكيد على ضرورة أن تكون هذه المحطات الإذاعية والتلفزية مستقلة سواء عن الدولة أو القطاع الخاص فيما كان هدف إنشائها من قبل الحلفاء يرمي إلى تثقيف الجمهور الألماني بالقيم الديمقراطية.
وأصر الحلفاء على ضرورة أن تبقى محطات البث الست على مسافة بعيدة من الحكومة وهو ما صب في صالح أول مستشار في البلاد كونراد أديناور الذي عُرف عنه ضجره حيال موقف القناة الأولى (ARD) المنتقد لحكومته لدرجة أنه ألمح ذات مرة إلى أن البريطانيين عمدوا إلى وضعها تحت نفوذ الحزب الاشتراكي الديمقراطي المعارض والذي ينافس حزبه المحافظ.
وبدأ أديناور عام 1959 في التخطيط لإنشاء محطة بث عامة ثانية يكون تنظيمها منوطا بالحكومة الفيدرالية وليس من قبل سلطات الولايات، بيد أن هذا المقترح اُعتبر غير دستوري، لكنه في نهاية المطاف أدى إلى إنشاء "القناة التلفزيونية الثانية" التي تُعرف اختصارا بـ "ZDF" عام 1961 حيث كانت تغطيتها منصبة على المستوى الوطني على الرغم من إدارتها كانت من قبل الولايات.
التنوع
وحتى عقب عام 1950، لم تكن إدارة القناة الأولى مركزية حيث جرى التناوب على رئاستها بين المؤسسات الست المؤسسة لها كل ستة أشهر لضمان عدم وجود أي هيمنة. وكان البث الأول للقناة عام 1952 فيما جرى وضع برامجها من قبل الهيئات الست.
وقد توسعت محطات البث العامة في ألمانيا والجامعة في المؤسسة الأم (ARD) على مر السنين. وكان الأمر يعود جزئيا إلى انقسامات في المحطات الست اذ انقسمت (NWDR) إلى (NDR) و(WDR) عام 1955 فيما جرى انضمام راديو سارلاند عام 1959 ومؤسسة دويتشه فيله وإذاعة "دويتشلاند فونك" كأعضاء جدد عام 1962.
وعقب الوحدة عام 1990، انضمت مؤسسات جديدة مع إنشاء إذاعة "أوست دويتشر روندفونك براندنبورغ" عام 1991 و"ميتل دويتشه روندفونك" عام 1992، ومثلت الإذاعتان المناطق الألمانية الجديدة.
وقد اندمجت مؤسسات أخرى إذ توحدت إذاعتنان في جنوب ألمانيا عام 1998 لتشكلا "إذاعة شمال وغرب ألمانيا" أو "SWR" فيما اندمجت إذاعتا برلين وبراندنبورغ عام 2003 لتؤسسا شبكة برلين-براندنبورغ الإعلامية العمومية المعروفة اختصار بـ "RBB" والتي كانت تديرها باتريسيا شليزنغر قبل استقالتها مؤخرا بسبب الفضيحة.
لكن اللافت أن الاتجاه العام تغير نحو التنويع مع قيام كل مؤسسة بإنشاء قنوات متخصصة. فعلى سبيل المثال دشنت "NDR" محطتين منفصلتين لأغاني البوب والكلاسيك وغيرها من أنماط الموسيقى المختلفة بالإضافة إلى قناة إخبارية وأربعة محطات إذاعية.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد بل قامت بتدشين محطة خاصة بموسيقى البوب الألمانية ذات الشعبية الكبيرة.
وفي عام 1998، تعاونت ثلاث مؤسسات إقليمية هي "WDR" و"RBB" و "راديو بريمن"، في إطلاق محطة إذاعية متعددة الثقافات لجذب جمهور المهاجرين أطلق عليها اسم "إذاعة كوزمو ".
إثارة الشكوك مجددا
تزامن هذا مع إثارة النقاش مجددا حيال دور وتمويل هذه المؤسسات الإعلامية العامة في ألمانيا حيث تعرضت برامج المسابقات الخاصة بالجوائز الكبيرة لانتقادات مثل برنامج "أراهن على ذلك ..Wetten, dass" حيث ترددت شائعات بأن مقدمه توماس غوتشالك كان يحصل على مئة ألف يورو عن كل حلقة.
كذلك تعرضت التغطية الإخبارية الخاصة بالقناة الأولى العامة "ARD" للانتقادات مع كل أزمة كبيرة تواجهها البلاد.
ففي عام 2020، تسببت بعض الآراء الشعبوبية ضد "رسوم البث" في أزمة طفيفة عندما هدد برلمان ولاية ساكسونيا أنهالت بعرقلة اقتراح بزيادة تقدر 86 سنتًا في الشهر في ضوء أن أي زيادة في رسوم البث يتعين أن تحظى بموافقة برلمانات الولايات الـ16.
وقد لزم على المحكمة الدستورية الألمانية البت في الخلاف.
وفي مقابلة مع DW، قال هندريك زورنر، الناطق باسم اتحادات الصحافة الألمانية، إن هذه التطورات كانت مصدر قلق، مضيفا "ما بات واضحا أن قضية تمويل هيئات البث العام في ألمانيا لم تعد من المسلمات".
وأضاف أن الإعلام العمومي أو هيئات البث العامة تعد ذات حيوية خاصة في أوقات الأزمات الاجتماعية، مؤكدا على الحاجة إلى "صحافيين مستقلين جيدين يقدمون ويشرحون المعلومات الأساسية. وهذا ما تفعله القنوات العامة وأعتقد أن هذا ما يجعلها أكثر أهمية من أي وقت مضى".
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الثقة في وسائل الإعلام العامة ظلت مستقرة بشكل نسبي فقد أظهرت دراسة سنوية معمقة أجرتها جامعة ماينز على مدى السنوات الخمس الماضية أنه في عام 2020 أعرب 70 بالمائة من الألمان عن ثقتهم في القنوات والإذاعات العامة.
وكشفت الدراسة عن أن مستوى هذه الثقة تراوح ما بين 65٪ و 72٪. على مدى السنوات الخمس الماضية.
وعزا زورنر ذلك إلى تصاعد الأزمات العالمية، مضيفا "عند اندلاع أزمات- وبعضها أزمات وجودية- فإن الناس يقصدون الصحافة الجيدة التي تقدم معلومات مستقلة".
بن نايت / م ع