بعد عام من الحرب .. كيف واجه الاقتصاد الروسي العقوبات؟
٢٣ فبراير ٢٠٢٣في الأيام التي تلت الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عام، تعرض الاقتصاد الروسي لهزة خطيرة خاصة مع فرض دول غربية لا سيما الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات شديدة على النظام المالي للبلاد.
وقد أدى ذلك إلى انخفاض قيمة عملة الروبل الروسية إلى مستوى قياسي مقابل الدولار الأمريكي فيما ضاعف البنك المركزي الروسي أسعار الفائدة وقررت الحكومة إغلاق بورصة موسكو لعدة أيام.
وعلى وقع ذلك، قال قادة الاتحاد الأوروبي إن العقوبات سوف تؤدي إلى "عواقب وخيمة وخطيرة" لروسيا فيما توقع اقتصاديون حدوث انخفاض كبير في الناتج المحلي الإجمالي.
وخرج البيت الأبيض بعد أسابيع من فرض العقوبات ليقول إن "الخبراء يتوقعون انكماش الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة تصل إلى 15 في المائة هذا العام وهو الأمر الذي سوف يقضي على مكاسب اقتصادية كبيرة حققها روسيا خلال السنوات الخمس عشرة الماضية".
بيد أن هذه التوقعات لم تحدث، إذ أنه رغم أن العام الماضي مثل تحديا للاقتصاد الروسي، إلا أنه تجنب الانهيار وكان أداؤه أفضل بكثير مما كان متوقعا.
لكن ورغم صورة الاقتصاد الروسية الجيدة على خلاف التوقعات، إلا أن الكرملين توقف عن نشر البيانات الاقتصادية بعد وقت قصير من بدء التوغل العسكري في أوكرانيا.
وفي مقابلة مع DW، قالت ألكسندرا فاكرو، المديرة التنفيذية لمركز ديفيس للدراسات الروسية والأوروبية والآسيوية في جامعة هارفارد، "أعتقد أنه يمكن القول بأن الاقتصاد تقلص كثيرا بنسبة تتراوح ما بين 10 إلى 15٪ وهي النسب التي كان يتحدث عنها الخبراء مع بداية الحرب".
وأضافت أن الناتج المحلي الإجمالي الروسي قد شهد انخفاضا بنسبة تتراوح ما بين 3 و 4٪ خلال الأشهر الـ 12 الماضية بما يتماشى مع تقديرات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
امتصاص الصدمة الأولى!
من جانبه، أشار كريس ويفر، الذي عمل لأكثر من 25 عاما كمستشار استثماري واستراتيجي في روسيا، إلى أنه خلال الأشهر الأولى من الحرب ساد الجميع في روسيا حالة من الذعر حيال مصير الاقتصاد الروسي، مضيفا لم يكن الأمر بسبب العقوبات فحسب وإنما بسبب قرار العديد من الشركات الغربية وقف نشاطها في روسيا.
وفي مقابلة مع DW، قال "كانت هناك تكهنات بأن خسارة التجارة والطرق اللوجيستية ستضر بعملية التصنيع في روسيا بشدة مع فقدان الكثير وظائفهم، لذا في ذاك الوقت، كنت متشائما حيال توقعاتي بشأن صمود الاقتصاد الروسي خلال عام 2022".
لكنه أضاف أنه بحلول مايو / أيار، بدأت الأمور "في تحسن بوتيرة سريعة، فلم تحدث أسوا التوقعات".
وكما كان متوقعا، فقد استمرت عائدات النفط والغاز خاصة من بلدان التكتل الأوروبي خلال العام الماضي في تعزيز ودعم الموارد المالية الروسية رغم أن دولا أوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا قررت خفض الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية.
فخلال الأشهر الأولى من الحرب، لم يفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على واردات النفط والغاز الروسية نظرا لحاجة دوله إلى مصادر الطاقة الروسية.
ومع استمرار تدفق النفط والغاز الروسي إلى أوروبا خلال العام الماضي، وجدت موسكو أيضا مشترين جدد مثل الصين والهند ودول أخرى.
وقد أعلن البنك المركزي الروسي في فبراير / شباط الجاري عن تحقيق فائض تجاري قياسي بلغ 227 مليار دولار (211 مليار يورو) خلال العام الماضي فيما يرجع الفضل في ذلك إلى عائدات الطاقة الكبيرة.
استمرار تدفق الأموال الأوروبية
وفي ذلك، قال ويفر "تمكنت روسيا من جني إيرادات غير متوقعة تقريبا من خلال تصدير النفط والغاز بشكل مرتفع جدا لأن المتداولين والتجار الأوروبيين لم يواصلوا شراء مصادر الطاقة الروسية فحسب، بل شرعوا في تخزينها". وقد ساعدت هذه "المكاسب غير المتوقعة" في تعزيز قدرة الحكومة الروسية على الحد بشكل كبير من تأثير العقوبات الغربية على احتياطياته الأجنبية.
وأضاف ويفر "كانت الحكومة الروسية قادرة على استخدام الأموال لتقديم الإعانات للصناعات الرئيسية وأيضا دعم قطاع التوظيف والتأكد من استمرارها في تمويل ليس فقط الجيش وإنما أيضا البرامج الاجتماعية والحفاظ بشكل عام على استقرار الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد".
وساعد ذلك في خفض معدل البطالة في روسيا والذي بلغ بحسب التقديرات الرسمية 4 بالمئة رغم الشكوك في صحة هذا الرقم نظرا لأن العديد من الروس تركوا وظائفهم للانضمام إلى الجيش أو غادروا البلاد عقب الحرب .
ويرى الخبراء أن هناك عاملا آخرا ساعد في صمود الاقتصاد الروسي يتمثل في أن غالبية الشركات الغربية استمرت في نشاطها داخل البلاد بمرور الشهور.
وفي هذا السياق، قال ويفر إنه في حين تعرضت شركات مثل ماكدونالدز لضغوط هائلة على منصات التواصل الاجتماعي كي ترحل عن روسيا، فإن معظم الشركات الأخرى نجحت في التغلب على مثل هذه الضغوط، مضيفا "كانت الشركات التي تعد ركيزة الاقتصاد مثل دافعي الضرائب الكبار أو أصحاب الإيرادات الكبيرة، أبطأ كثيرا في شد الرحال عن روسيا".
أسواق جديدة "واردات موازية"
ويقول خبراء إن هناك سببا آخرا وراء صمود الاقتصاد الروسي يتمثل في آلية العقوبات ذاتها حيث قالت فاكرو إن العقوبات فشلت باستمرار في إحداث تأثيرات كما كان يتوقع سواء في فنزويلا وإيران وحتى روسيا التي تعرضت لعقوبات في السابق خاصة عقب ضمها شبه جزيرة القرم عام 2014.
وأضافت "هناك حقيقة مفادها أن العقوبات تكون أكثر فاعلية قبل أن يتم فرضها"، مشيرة إلى أن الروس قد اعتادوا على العيش في ظل العقوبات في السابق لأكثر من عشر سنوات.
فعل سبيل المثال، اتخذ البنك المركزي الروسي إجراءات حاسمة لدعم نظامه المالي خلال شهري فبراير / شباط ومارس / آذار العام الماضي مع بدء الحرب فيما ساعد رفع أسعار الفائدة على منع فرار الأموال من المصارف الروسية مع تراجع معدل التضخم في البلاد تدريجيا.
وأضاف ويفر أن وقوع روسيا تحت طائلة العقوبات لأكثر من عشر سنوات جعل مصارفها قادرة على التكيف مع الضغوط الاقتصادية الشديدة فيما باتت البلاد قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في قطاعات حيوية مثل إنتاج الغذاء.
كذلك يدخل في هذا الإطار علاقات روسيا التجارية القوية مع الصين والهند وهو ما ساعد في صمود الاقتصاد الروسي إذ ارتفعت التجارة بين روسيا مع كلا البلدين، فيما استفادت روسيا من مبيعات السوق الموازية التي تُعرف باسم "الواردات الموازية" حيث وجدت المنتجات الغربية طريقها إلى روسيا مرة أخرى عبر طرف ثالث مثل الصين والهند وغيرها.
وفي ضوء ذلك، قالت فاكرو إن الصين أضحت "الرابح الأكبر"، مشيرة إلى أنه في الوقت الذي ارتفعت فيه التجارة بين الدولتين زاد اعتماد موسكو أكثر وأكثر على بكين.
وأضافت "الصين لا تهتم حقا بروسيا لأنها تمثل فقط 3 بالمائة من حجم التجارة الصينية، لكن روسيا تهتم الآن كثيرا بالصين. والشيء الجيد في ذلك بالنسبة للدول الغربية هو أنه عندما تقول الصين لروسيا إنه لا يمكنها استخدام السلاح النووي في أوكرانيا، فإن موسكو من المؤكد لن تفعل ذلك وسوف تنصت لما تقوله بكين".
كيف يبدو مستقبل الاقتصاد الروسي؟
وفيما يتعلق بالعام الجاري، تباينت الآراء حيال التوقعات بشأن الاقتصاد الروسي إذ ذكر صندوق النقد الدولي مؤخرا إنه يتوقع أن ينمو اقتصاد روسيا بنسبة 0.3 بالمائة في عام 2023 رغم أن توقعات أخرى تذهب إلى القول بأن الناتج المحلي الإجمالي سوف ينخفض بنسبة 2 بالمائة.
وخلال العام الماضي، تمكنت أوروبا من تقليل أو إنهاء اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، لكن ورغم ذلك، فإنه لم يتضح بعد أن تأثير تحديد الاتحاد الأوروبي سقف أسعار النفط الروسي عند 60 دولارا للبرميل إذ كشف تحليل لمجلة "الإيكونوميست" عن استمرار ارتفاع مبيعات النفط الخام الروسية بسبب تزايد الطلب من الصين والهند.
بدوره، يعتقد ويفر أن العقوبات الجديدة التي فرضها الاتحاد الأوروبي مطلع الشهر الجاري التي تستهدف المنتجات النفطية المكررة في روسيا بما فيها الديزل، ستكون حاسمة.
وأضاف "هناك علامات استفهام كثيرة حيال المكاسب التي ستجنيها روسيا من تصدير الهيدروكربونات والصناعات الاستخراجية هذا العام، لكن بالتأكيد سيكون الأمر أقل بكثير مما كان عليه في عام 2022".
آرثر سوليفان / م.ع