"بريكست".. أزمة على الصعيد الشخصي وفي النظام الصحي البريطاني
١٧ سبتمبر ٢٠١٨الخبر تلقاه هوبرتوس فون بلومنتال صباح الاثنين من ابنته بعد صدور نتيجة الاستفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست". يعلق الطبيب الألماني على ذلك "لم أستطع تصديق الخبر". وهو لم يستوعب للوهلة الأولى أن حياته ستتغير بسبب ذلك، يقول هوبرتوس الذي يعمل منذ نحو ثلاثين عاماً في النظام الصحي البريطاني. في ليلة واحدة "تغيرت الأجواء في البلاد". وأخذ مرضاه بتوجيه السؤال التالي: "هل يتوجب عليك المغادرة الآن؟". وآخرون أكدوا له أنهم مازالوا بحاجة إليه. لقد أمضى هوبرتوس من حياته في بريطانيا أطول من تلك التي قضاها في ألمانيا.
القوة المحركة هي معاداة الأجانب
هوبرتوس فون بلومانتال يعمل في عيادة تضم عدة أطباء في قرية Gamlingay. في السابق كانت حقول القمح تغطي المنطقة، أما اليوم فإنها تقع في حرم مدينة كامبريدج ذات الجامعة المرموقة. حجرة عمله صغيرة ومعتمة بعض الشيء ويحتاج المرء لكثير من الخيال لقضاء حياته العملية في هذه الظروف.
في هذه المنطقة صوتت غالبية السكان لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، يقول الطبيب، فهم متقدمون في السن وملتزمون بالتقاليد وليس لديهم أدنى فكرة عن الاقتصاد المعولم. لكن في كامبريدج المجاورة الوضع عكسياً تماماً، لأن الطلبة والباحثون ينحدرون من مختلف بقاع العالم وينتمون للنخبة العالمية، وهم يجلبون الرفاهية وفرص العمل إلى المنطقة.
وباعتبار أن الناس في قرى في هذه المنطقة ليسوا فقراء ولا معتمدين على المساعدات من الدولة في حياتهم، فما الذي دفعهم للتصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي؟. "إنها في الغالب معاداة الأجانب"، يقول الطبيب. وهذا الوضع خلق له أزمة شخصية: "بعض وسائل الإعلام عملت منذ سنوات على التقليل من شأن كل ما هو أجنبي"، والكثير من الناس استقوا أفكارهم من هذا النوع من وسائل الإعلام. إضافة إلى ذلك لا توجد لديهم معرفة بالاتحاد الأوروبي. "انصب اهتمامي دوماً على المجتمع البريطاني والسياسة. وقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي يبدو أكثر تدميراً على حياتي من أي شيء مررت به هنا".
المنظومة الصحية في أزمة
وقطاع الصحة الذي يعاني منذ سنوات من التقشف يهدد الخروج من الاتحاد الأوروبي بتحويله إلى كارثة. "مرضانا مجبرون على الانتظار فترات أطول والتخلي عن بعض العلاجات"، يقول هوبرتوس فون بلومنتال. وينقصنا حوالي 1000 طبيب. "إذا غادرت، فلن يجدوا من يعوضني". فخمسة في المائة من مجموع الأطباء البريطانيين يأتون من الاتحاد الأوروبي وتقريباً نصفهم يفكر في مغادرة البلاد، كما كتب رئيس اتحاد الأطباء البريطاني أندري غودارد. بل حتى وزير الصحة السابق اعترف في يونيو بأن حالة عدم فقدان الثقة بالمستقبل تدفع "للأسف بعض الزملاء المحترمين من أوروبا إلى ترك البلاد".
وبالنسبة إلى فون بلومانتال الوضع واضح: وزير الصحة السابق وعد بتعيين 5000 طبيب جديد حتى عام 2020. لكن من غير الواضح من أين سيأتون. وعندما حاول قطاع الصحة سد الثغرات جزئياً وجلب 3000 طبيب جديد من الاتحاد الأوروبي، لم يتقدم إلا 86 طبيباً لشغل الوظائف. "لماذا سيأتي طبيب أوروبي إلى هنا إذا كان مشواره المهني والظروف بالنسبة إليه ولعائلته والاعتراف بمؤهلاته ببساطة معلق في الهواء؟"، يسأل الطبيب الألماني. "نحن نعيش في وضع متأرجح ولا ندري ببساطة كيف ستتطور الأمور. كل التطمينات ليس لها قيمة، لأن الوزير القادم سيغيرها بجرة قلم". وهذا لا ينطبق فقط على الأطباء، بل حتى على الممرضات والعاملين الآخرين في قطاع الصحة البريطاني.
البحث اليائس عن ممرضات
الاتحاد الملكي للممرضات مؤسسة تقليدية ويقع مقرها في بناية راقية في لندن. لكن مزاج الرئيسة ماريا تروييرن يوحي بالنضال، فهي طالبت لتوه في مناشدة للحكومة بمراعاة عواقب الخروج من الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى قطاع الصحة والعاملين فيه. فالتخوفات السيئة بدأت تتحقق الآن: "فمنذ الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي غادرنا 2000 ممرضة من الاتحاد الأوروبي. وهذا عدد مهم، ومعهن تذهب تجارب ومعلومات ما يضر بقطاع الصحة كقطاع محوري"، تقول ماريا. "نحن نحتاج إلى هذه اليد العاملة ونحن منزعجون لكون زملاءنا قلقين. ليس بوسعهم التخطيط في حياتهم، والسكن والمدارس للأطفال تبقى غير مضمونة". وتتابع السيدة البريطانية قائلة: "نحن نريد أن لا يغادروا، نحن نفضل الحفاظ عليهم، لأننا نقدر مساهمتهم في مجتمعنا". وقطاع الصحة البريطاني سيخسر بالأساس كوادر شابة يحتاج إليها .
وتحتاج بريطانيا في الوقت الحاضر إلى ما لا يقل عن 40.000 ممرضة وماريا تروييرن تخشى انعكاسات سلبية كبيرة على المرضى. وهي تحاول الآن جلب كوادر للعناية بالمرضى وكبار السن من مختلف مناطق العالم، وهذا يعني أيضاً جلبهم من بلدان العالم الثالث. وتقول ماريا تروييرن بأن الساسة لم يراعوا هذه العواقب للخروج من الاتحاد الأوروبي. "هم أغفلوا ذلك، لأن الأمر يرتبط بالنسبة إليهم بالسياسة وليس بالصالح العام. أما أنا كممرضة فمسؤولة عن الصالح العام".
الوضع قد لا يطاق
في قرية Gaminglay يتردد الطبيب فون بلومانتال بعد نهاية عمله على الحانة في القرية لتجاذب أطراف الحديث مع أصدقائه ومعارفه. المفاوضات بين بروكسيل ولندن حول الخروج من الاتحاد تسبب له قلقاً شخصياً: "قد لا نتمكن من تحمل الوضع". ولديه خطة طوارئ رغم أنه سيكون من الصعب عليه المغادرة. فبعد ثلاثين عاماً هنا ضرب الطبيب الألماني جذوراً عميقة؛ إذ أن الأطفال والأحفاد يعيشون أيضاً في المنطقة.
فهل يراوده أمل أن يتم التخلي حتى الـ 29 من آذار/مارس المقبل عن مشروع الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ "الكثير من الناس لهم اعتقاد شبه ديني بالخروج من الاتحاد الأوروبي ولا يريدون معرفة شيء آخر، ولا الاستماع إلى الخبراء". وإذا ما صوتوا في استفتاء ثان ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي، فوجب عليهم الاعتراف بأنهم اتخذوا في المرة السابقة قراراً خاطئاً. وهذا يكون أحياناً صعباً". كما أن الوقت قصير والضغط السياسي غائب تماماً.
والكثير من البريطانيين ليس لهم الرغبة في فتح الموضوع ومناقشته من جديد. والجهات الحكومية المدافعة عن الخروج من الاتحاد الأوروبي ليس لديها أجوبة على تساؤلات الناس.
باربارا فيزل/ م.أ.م