برلين.. مبادرة لإدماج التلاميذ المهاجرين في النظام المدرسي
٩ سبتمبر ٢٠١٨كان الطقس غائماً وحبات المطر تتساقط زخات زخات حينما التقينا السيدة بيترا بيكر أمام بناية عتيقة في حي شارلوتنبورغ البرليني الراقي. بادرتنا السيدة بيترا بالتحية بلهجة شامية ثم لوحت بيدها نحو باب البناية وكأنها تطلب منا الدخول إلى البناية الكبيرة التي يعود بنائها إلى بدايات القرن المنصرم. "كانت هذه البناية الكبيرة مهجورة منذ ما يزيد عن خمس عشرة سنة، لقد تحولت اليوم إلى فضاء يلتقي فيه الوافدون الجدد للمشاركة في برامج اندماجية." هكذا وصفت لنا المرأة الشقراء بإيجاز المهمة التي اتخذها المبنى على عاتقه خلال السنتين الأخيرتين، ثم مضت تقول بأن برنامجها التعليمي الذي يحمل اسم Back on Track "باك أون تراك" يأخذ هنا في إحدى قاعات البناية مكاناً ثابتاً يتحصل فيه الأطفال والشبان على دعم معرفي وعلمي باللغة العربية مرة في الأسبوع.
ألمانيّة بآفاق مفتوحة
تنحدر السيدة بيترا من قرية صغيرة في أعماق ولاية شمال الراين-ويستفاليا الواقعة في غرب جمهورية ألمانيا الاتحادية. ما أن تحصلت السيدة الشابة على شهادة الثانوية العامة وهي في التاسعة عشرة من عمرها حتى تملكتها فكرة السفر والتعرف على ثقافات أخرى، فكانت وجهتها نحو العالم العربي والإسلامي: تونس ثم تركيا. كان إعجابها بالثقافة العربية والإسلامية لا حدود له، ما جعلها تختار تعلم اللغة العربية ودخول عالم الاستشراق في جامعة منستر العريقة من بابه الواسع، ثم استرسلت قائلة: "زيارتي لهاتين الدولتين وإعجابي الكبير بالحضارة العربية والإسلامية جعلني أدق أبواب جامعة منستر لدراسة العلوم الإسلامية".
كان لها ما أرادت حينما أضحت طالبة في الجامعة، إلا أنها أرادت أن تدخل العالم العربي وتعلم اللغة العربية في بلد عربي، فوقع اختيارها على سوريا عوضاً عن الكويت التي كانت تكاليف العيش فيها مرتفعة مقارنة بسوريا آنذاك. لم تكن السيدة بيترا وهي الشابة اليافعة في عمر الورد حينها تنوي سوى البقاء سنة واحدة لإتقان لغة الضاد ثم العودة إلى مقاعد الجامعة وإتمام دراستها الجامعية، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن.
الوقوع في حب شاب ومدينة
"وقعت في حب شاب سوري وسيم الأمر الذي جعلني أمدد إقامتي إلى سنة إضافية عوضاً عن سنة واحدة يتيمة". قالت السيدة بيكر هذه الكلمات ضاحكة ثم أضافت بأنها تزوجته وأنجبت منه بنتين. لم تقضي السيدة الألمانية مع زوجها سوى عقداً من الزمن في ألمانيا، إذ نظراً لصعوبة الحياة في العاصمة الألمانية برلين، أقفلا عائدين إلى "الشام" (دمشق).
حبها لسوريا لم ينقطع بموت زوجها الذي فارق الحياة، قبل اندلاع "الثورة السورية"، بل أبت إلا أن تظل مع ابنتيها في وطن شعرت فيه بالطمأنينة وكرم الضيافة. غير أن تدهور الوضع الأمني في الغوطة حيث كانت تعيش جعلها تغادر-مكرهة- بمعية ابنتيها وطنها سوريا الذي أحبته لتحط الرحيل في مدينة برلين من جديد.
"تفادي" أخطاء الماضي و"رد" للجميل
"باك أون تراك يعني نرجع على السكة" بهاتين العبارتين الموجزتين ترجمت السيدة الشقراء اسم برنامجها التعليمي الذي بعثته إلى الحياة سنة 2016 في إحدى قاعات مبيت جماعي في حي ليشتنبرغ ببرلين، ثم انتقلت إلى البناية العتيقة. وحول انطلاقة البرنامج تقول الباعثة للمشروع: "لقد فوجئنا بالإقبال الكبير للراغبين من الأطفال في المشاركة في الحصص التعليمية، بالرغم من كثرة العدد وصغر القاعة التي قدمت لنا من قبل المبيت الجماعي استوعبنا كل الأطفال". بلغ عدد الأطفال في بادئ الأمر 120 طفلاً.
أما مصدر الفكرة كما تقول المستشرقة الألمانية: "نريد أن نتفادى الأخطاء التي ارتكبت في الثمانينات من القرن المنصرم، حيث لم يتم الاهتمام بالأطفال والشباب العرب من اللبنانيين الفارين من الحرب الأهلية فهم لم يتقنوا لا لغتهم الأم ولا الألمانية ما جعل غالبيتهم تواجه صعوبات في مراحل التكوين والتأهيل والاندماج". وتضيف بأنها تريد رد الجميل لبلد قدم لها الكثير وباتت جزءاً منه: "أريد أن أقدم للأطفال ضحايا الحرب أجمل شيء وهو التأقلم والنجاح في مجتمع جديد."
التعلم "الذاتي"
وحتى تنجح في مهمتها أحضرت ثلة من الأكاديميين السوريين والعرب ليشرفوا على برنامج التدريس المتميز. يعتمد المشروع على منهاج اليونيسيف المعدل لدعم الأطفال السوريين في الرياضيات والعلوم واللغة العربية بطريقة التعلم الذاتي. الأكاديميون العاملون في البرنامج ليسوا بمعلمين، بل مجرد مشرفين لا يساعدون عند الحاجة.
وحول مهمتها كمشرفة تقول الوافدة السورية شذى أحمد في تصريح خاص بـ DW عربية: "أشرف على مادة اللغة الإنجليزية كما أن مادة العربية تأخذ حيزاً كبيراً من عملي مع الأطفال، يجب على هذا الجيل أن يبقى على اتصال متواصل مع الحضارة العربية لأنه جزء منها". الشابة العربية شذي تدرس في الجامعة البرلينية وعلاقتها بالمدرسة والأطفال تعود بحياتها في دمشق حيث كانت تحضر حصص التدريس في مدرسة خاصة تابعة لوالدتها حيث تعلمت أبجديات التدريس. الشيء الذي ساعدها على دعم الأطفال في حصص تقدم مرة في الأسبوع هو "الحاجة الملحة للدعم وتزايد عدد الأطفال الرغبين في المشاركة في هذه الحصص".
ولأولياء الأمور كلمتهم
الحماس لم نجده فقط لدى مديرة المشروع أو المشرفين على التعليم بل أيضاً لدى أولياء الأمور على غرار السيد عبد الوهاب الزغبي الذي التقته DW عربية في حديقة البناية مع ابنتيه اللتين تحضران بدون انقطاع حصص البرنامج: "أرى أن هذا البرنامج مناسب ويتماشى مع طلبات واحتياجات الأطفال. انطباعات أطفالي وتجاربهم إيجابية جداً". تزور ابنتي السيد عبد الوهاب المشروع منذ ما يزيد عن السنة، وكما يقول بأن ابنته الكبرى تمكنت من تحسين مستوها الدراسي في الثانوية ويلاحظ أن ابنته الصغرى التي لاتزال في المرحلة الابتدائية تعد من المتميزات في فصلها التعليمي. السيد عبد الوهاب الوافد الجديد القادم من مدينة إدلب معتز وفخور بهذا البرنامج وما تقدمه السيدة بيترا بيكر للأطفال والشبان السوريين وينصح الأطفال من الوافدين الجدد استغلال هذا العرض المتميز في المدينة.
شكري الشابي / برلين