انفجار المرفأ وجروح اللبنانيين الداخلية- آلام نفسية في لبنان
٣٠ ديسمبر ٢٠٢١استغرق الأمر وقتا طويلا، لكن الآن بإمكان ميرا أن تتحدث عمَّا عايشته. ففي يوم الانفجار المروع لمرفق بيروت، كانت تجلس في مقهى على الجانب الآخر من حوض الميناء. "فجأة سمعنا انفجارا مدويا، وتساقطت النوافذ وكان الجميع يبحثون عن مأوى على الأرض"، تحكي ميرا. كان ذلك في الرابع من أغسطس/ آب 2020. في ذلك الوقت، تطايرت في سماء الميناء نيران 2750 طنا من نترات الأمونيوم، كانت مخزنة بشكل غير آمن هناك، وهو ما أودى بحياة أكثر من 200 شخص وتسبب في إصابة الآلاف.
تقول ميرا، التي لا تريد ذكر اسمها الحقيقي: "منذ ذلك الحين بالنسبة لي، لم يعد هناك شيء كما كان من قبل. يتملكني الخوف عندما أسمع أصواتا عالية وعندما يتصاعد الدخان في أي مكان؛ أبحث فورا عن الحماية في غرف بالداخل". ولا يغيب عن بالها بشكل خاص المصير المأساوي لسيدة إطفاء شابة، لم تتمكن من النجاة من الانفجار آنذاك. "أفكر فيها كثيرا. كانت، مثلي في ذلك الوقت، مخطوبة وأرادت الزواج". مصير تلك الشابة انتشر في جميع وسائل الإعلام اللبنانية في ذلك الوقت ولا يزال يمس ميرا حتى يومنا هذا: "لطالما أردت الانضمام إلى فرقة المتطوعين بفوج الإطفاء. لكن والداي منعاني من القيام بذلك". ومنذ ذلك الحين، تشعر ميرا بنوع من الذنب، على الرغم من أنها لم تكن تعرف الشابة شخصيا: "ضميري يؤنبني لأني نجوت".
اكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة
كانت صور الانفجار التي وصلت إلى جميع أنحاء العالم في ذلك الوقت صادمة بالنسبة لكثيرين. وعلى الرغم من إعادة بناء بعض الأشياء وإصلاحها في الشوارع المحيطة بمنطقة الميناء، إلا أن الجروح الداخلية ماتزال لا تريد أن تلتئم لدى العديد من اللبنانيين بعد عام ونصف العام من الواقعة. وتقول الشابة البالغة من العمر 30 عاما: "لدي العديد من الأصدقاء الذين يطلبون الآن المساعدة النفسية".
جوزيف خوري، أستاذ الطب النفسي ورئيس الجمعية اللبنانية للطب النفسي، يقول إنه على الرغم من عدم وجود دراسات استقصائية حول تطور المرض النفسي في لبنان، إلا أنه يمكن ملاحظة توجه نحو الزيادة. "في العامين الماضيين، قدمت إلينا أعدادا متزايدة من الناس للحصول على المساعدة من الأطباء النفسيين أو علماء النفس أو المعالجين. وعزا العديد منهم مشاكلهم، مؤقتا على الأقل، إلى ذاك الوقت أو إلى الأحداث التي وقعت خلال ذاك الوقت. كما شهدنا زيادة في الاضطرابات النفسية اللاحقة للصدمة الناجمة عن الانفجار الذي وقع في بيروت".
الأزمات يمكن أن تكون محفزا للمرض
غير أن خوري يشدد أيضا على أنه ليس من الممكن دائما تحديد سبب معين للأمراض النفسية وأنه ليس بالضرورة دائما أن يكون مرتبطا بمختلف الأزمات في البلد. لكن عدم الاستقرار السياسي وجائحة كورونا والمخاوف الاقتصادية بشكل فردي أو مجتمعة يمكن أن تكون عوامل ضغط تعزز الأمراض النفسية مثل الاكتئاب أو القلق، كما يقول خوري.
تطارد لبنان الأزمة تلو الأخرى، فالبلد يقترب بشكل خطير من الإفلاس. فقد فقدت الليرة اللبنانية، التي كانت مرتبطة بالدولار لمدة ثلاثين عاما، حوالي تسعين في المائة من قيمتها في العامين الماضيين. ويتحدث البنك الدولي في تقريره الأخير، مرصد لبنان الاقتصادي، عن واحدة من أشد الأزمات الاقتصادية في التاريخ الحديث على مستوى العالم. وبالإضافة إلى ذلك، هناك جائحة كورونا وارتفاع معدلات البطالة: فأربعة من كل عشرة لبنانيين بدون عمل. وقد اضطرت العديد من المصانع والشركات بالفعل إلى إغلاق أبوابها ولا يحصل الناس على مدخراتهم بسبب الأزمة الاقتصادية.
مخاوف اللبنانيين بشأن المستقبل
كل هذا كان له تأثير على ميرا حتى قبل الانفجار. ففي نهاية عام 2019، عندما كان الوضع الاقتصادي في دوامة هبوط بالفعل، لاحظت أن سلوكها الاجتماعي يتغير. وتقول: "أصبح لدى مخاوف حول المستقبل وكيف يمكنني بناء حياة لنفسي في هذا البلد؟ كيف سيكون لدي أطفال في هذا البلد؟ لقد انسحبت أكثر وأكثر، وأحيانا لا أغادر غرفتي لأيام. وتضيف "كنت على قيد الحياة فقط".
وأكمل عليها في نهاية المطاف تسميم كلبها لأنّ الأخبار المزيفة انتشرت في بداية الوباء بأن الحيوانات الأليفة يمكن أن تنقل الفيروس أيضا، وتقول: "كان ذلك صعبا جدا بالنسبة لي". في تلك الأثناء، بدأت ميرا تجتمع مع الأصدقاء من جديد وتذهب إلى مقهى من وقت لآخر. لكن الخوف من الضوضاء غير المتوقعة والدخان ظل قائما.
نقص الأطباء النفسيين في لبنان
صارحت ميرا أصدقاءها وسعت للحصول على نصائح من كل مكان. وتقول: "حتى الآن، لم أجد طبيبا نفسيا. وأود أن أجد شخصا لديه خبرة في الصدمات النفسية". وتوضح أن العديد من الأطباء النفسيين يقدمون خدماتهم عبر الإنترنت.
الطبيبة النفسية تيريز ورد، هي نفسها غالبا ما تستقبل المرضى الذين يتحدثون إليها عن مخاوفهم وهمومهم وتقول: "يكافح الناس لإنجاز أمور حياتهم اليومية. ولديهم مخاوف على المستقبل. وكثيرا ما يحكون لي عن فراغ داخلي" لديهم.
ميرا لا تريد العلاج عبر الإنترنت. لكن قوائم الانتظار لدى الأطباء النفسيين طويلة، كما تقول تيريز ورد. ولسوء الحظ هناك نقص في الأطباء النفسيين. ويقول جوزيف خوري إن العديد من الأطباء النفسيين، مثلهم مثل العديد من الأطباء الآخرين، غادروا البلاد أو هم على وشك المغادرة. علاوة على ذلك فـ"إن الوضع الدوائي سيئ جدا، فمعظم الأدوية غير متوفرة أو باهظة الثمن لأن الإعانات لها قد ألغيت. ويستخدم الناس مخزوناتهم أو يحصلون على شرائط أقراص مفردة من الصيدليات. ويحصل بعض الناس على الأدوية من تركيا أو الإمارات العربية المتحدة أو مصر".
لا إعانات لشراء الأدوية
وكان وزير الصحة فراس أبيض قد أعلن في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني إلغاء أجزاء من الإعانات المقدمة للأدوية للأمراض المزمنة. وقد تسببت هذه الخطوة في ارتفاع أسعار العديد من الأدوية. وأدوية الأمراض النفسية مثل الاكتئاب والفصام سعرها الآن ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل ذلك الإعلان. وأيضا العلاجات تكلف أحيانا الكثير من المال. تقول ميرا: "تأميني الصحي لا يغطي تكاليف العلاجات النفسية". وتضيف أنها تضطر إلى دفع تكاليف علاجها بنفسها وأنه في أزمة اقتصادية مستمرة، فإن ذلك يشكل تحديا، بيد أنه ليس عائقا بالنسبة لها.
ولكن هناك أيضا منظمات مثل منظمة "احتضان" (Embrace) اللبنانية غير الحكومية، التي تقدم الدعم النفسي مجانا. ولكن حتى هذا يرتبط عادة بوقت انتظار، لأن المزيد والمزيد من الناس يريدون الحصول على هذه العلاجات المجانية.
الحاجة للمساعدة
وعلى الرغم من أن الأشخاص المصابين بأمراض نفسية ما زالوا يتعرضون لتشويه السمعة، إلا أن تيريز ورد سعيد لأن الحالة قد تحسنت كثيرا في هذا الصدد. ميرا تتحدث أيضا بصراحة عما يهمها. ومع ذلك، فإنها لا تريد أن يكون اسمها الحقيقي معروفا في حالة قيام أصحاب العمل المستقبليون بالبحث عنها في "غوغل" وتقول: "أنا معلقة في الهواء الآن ولا أعرف ماذا أريد أن أفعل في المستقبل. فكل ما أعرفه هو أنه يجب أن أطلب المساعدة، أريد أن أعرف لماذا لدي هذا الشعور ولماذا لدي هموم ومخاوف، في حين أن المسؤولين عن الانفجار يمكنهم النوم بشكل جيد في الليل".
وحتى الآن، لم تتم محاسبة أي من المسؤولين المفترضين عن أكبر تفجير غير نووي معروف في التاريخ. وخلال العام الجديد، ترغب ميرا، التي أضحت متزوجة، في زيارة بعض الأصدقاء في الخارج مع زوجها. وقالت "نعلم أن العام الجديد لن يكون أسهل. فهناك انتخابات قادمة في لبنان وأوميكرون يزداد انتشارا. ولهذا السبب نريد الخروج من هنا مرة أخرى".
دينا هودالي/ ص.ش