اليونانيون والأتراك.. صداقة صعبة وتاريخ مثقل بالجراح!
١١ أكتوبر ٢٠٢٠كانت جدتي تعيش في مدينة "إيوانيا" في شمالي اليونان. كانت امرأة رائعة تحبني كثيرا وتطبخ لي طعاما لذيذا. وحين كنت أستعجل في الأكل ولا آتي على ما سكبته لي في صحني لكي أذهب بسرعة للعب مع الأطفال، كانت تهددني بالقول: عليك أن تأكل كل ما في صحنك، وإلا سيأتي التركي ويخطفك. وربما هذا هو السبب الذي جعلني بدينا حتى اليوم.
بعد أعوام استوعبت تهديدات جدتي، حيث أن مدينتها "ٌإيوانيا" قد ضمت عام 1913 إلى اليونان خلال حروب البلقان، وقبل ذلك كانت جدتي مواطنة في الإمبراطورية العثمانية. لكن كلمة "مواطنة" ليست صحيحة، لأن سلطات الإمبراطورية العثمانية لم تكن تنظر إلى سكانها كمواطنين وإنما كرعايا عليهم الطاعة.
ولم يكن اليونانيون يرضون بذلك ويرفضون الانصياع لسيطرة العثمانيين فثاروا عليهم، ولم تتكلل المقاومة بالنجاح فقط وإنما أصبحت أسطورة لتأسيس دولة اليونان الحديثة.
كل أمة تبالغ في أسطورة تأسيسها وتحاول أن تخفي فظائعها وإبراز إنجازاتها والصفحات المشرقة في تاريخها. ويبدو أن هذا كان حال الجمهورية التركية أيضا لدى تأسيسها عام 1922وكذلك حال تأسيس الإمبراطورية الألمانية عام 1871.
الأساطير والوقائع التاريخية
تقول الأسطورة اليونانية إن روح الشجاعة اليونانية وبدعم من الكنيسة الأرثوذكسية انتصرت على العثمانيين الذين كان عددهم يفوق عدد اليونانيين كثيرا، ومن خلال تقييم النتائج يمكن أن يكون ذلك صحيحا. لكن يجب أن يعرف كل يوناني أنه لولا الدعم الخارجي لما أمكن تحقيق استقلال اليونان بعد تدمير الأسطول العثماني المصري في معركة نافارين عام 1827 من قبل أساطيل الحلفاء البريطانيين والفرنسيين والروس.
لذلك ربما لا يزال الساسة في أنقرة يعتقدون أن اليونان هي الطفل المدلل لدى الغرب. وفي أثينا يرون الأمر معكوسا، وأن تركيا هي المدللة حيث يتم إمدادها بالسلاح من قبل الشركاء في حلف الناتورغم احتلالها لنصف جزيرة قبرص عسكريا وتدخلها في الدول المجاورة، وعلاوة على ذلك قائد قومي لديه الأغلبية في البرلمان.
السياسة تفسد التعايش!
العبارة المعتادة تفيد بأن اليونانيين والأتراك أرادوا دائما العيش بسلام، ولكن الساسة يحبطون ذلك! المرء لا يعرف إن كان ذلك صحيحا أم لا. لكن المؤكد هو أن الكثير من الناس على ضفتي بحر إيجة يشعرون بنوع من الحنين لبعضهم البعض ويتفاهمون بسهولة من خلال الموسيقا والطعام والفكاهة والمتعة المشتركة.
في فيلمه المميز "قرفة وكزبرة" يحاول المخرج اليوناني تاسوس بولميتيس أن ينقل معاناة اليونانيين في إسطنبول من دون تجاهل حساسية الأتراك. وبطله في الفيلم هو اليوناني فانيس الذي نزح من إسطنبول في ستينات القرن الماضي إبان أزمة قبرص، وحاول أن يقيم علاقات اجتماعية مع الناس في أثينا، لكن أقرانه اليونانيين ينبذونه وينظرون إليه كـ "تركي" وليس واحدا منهم.
الشوق والمرارة
الفرد يصبح لعبة للمصالح السياسية والأغلبية تبقى صامتة. الكل يحزن ويأسف لما يحصل ولكنهم لا يتحركون ولا يفعلون ما يكفي من أجل تغيير مسار القدر. ففي اليونان تم الاحتفاء بفيلم "قرفة وكزبرة" كفيلم مثير للعواطف والشوق ولكنه يترك شيئا من المرارة أيضا. وربما يكون هذا اقتراحا جيدا للساسة: رجاء القليل من العاطفة والكثير من العقلانية.
في الماضي القريب لم تكن نهاية العواطف الجياشة في العلاقات الثنائية جيدة. وهكذا تغنت كل اليونان في سبعينات القرن الماضي، في فترة الديكتاتورية العسكرية، بقصة الصديقين يانيس اليوناني ومحمد التركي في إسطنبول اللذين كانا يحتسيان النبيذ معا ويتجادلان خلال ذلك حول الدين والعالم.
الرب والله!
يقول محمد لصديقه يانيس متأملا "أنت تؤمن بالرب وأنا أؤمن بالله، ومع ذلك كلانا نعاني". بعد ذلك بمدة قصيرة ينقذ عسكر أثينا انقلابا في قبرص، فرأت تركيا أن عليها التدخل واحتلت نصف جزيرة فبرص منتهكة يذلك القانون الدولي بشكل صارخ حتى اليوم. أما الصديقان محمد ويانيس فلم يبق لديهما ما يقولانه وما يتحاوران حوله.
لنكون عقلانيين حتى تكون عواطفنا تجاه بعضنا البعض مبنية على أسس متينة. وإذا ما تورطت تركيا واليونان في صراع عسكري جديد، سيكون شعبا البلدين الخاسر الأكبر.
ساسة بدل القوميين!
لنكون شجعان أيضا، فحتى العدوان اللدودان إلفثيريوس فنيزيلوس (رئيس وزراء اليونان في بدايات القرن العشرين) ومصطفى كمال (مؤسس الجمهورية التركية) لم يترددا في التفاوض حول كونفدرالية تركية يونانية في شرقي البحر الأبيض المتوسط. صحيح أن هذا التصور لم يكن قابلا للتنفيذ لأنه كان يسير جنبا إلى جنب مع الخوف التركي القديم من تقسيم الوطن الأم، لكن تطوير المفاهيم والتصورات المستقبلية أفضل دائما من قرع طبول الحرب. ومن أجل ذلك هناك حاجة لساسة موهوبين وليس لقوميين يتمتعون بالأغلبية، وأخيرا يحتاج المرء لمواطنين متنورين منفتحين لديهم الثقة بالنفس على ضفتي بحر إيجه.
يانيس باباديميتريو/ عارف جابو