الهاتف الذكي: اتصال دائم بالعالم وعزلة عن المجتمع
٢١ مارس ٢٠١٢في البيت، في الشارع، على رصيف محطة القطار، في الطريق، يرى المرء أشخاصاً يستخدمون هواتفهم "الذكية". لا يقف المرء في منتصف محطة القطار لبضع دقائق، حتى يرى حركة الناس وانشغالهم بهذه الأجهزة. على مقعد ما يجلس احدهم ويتصفح من خلال هاتفه الذكي كتاباً الكترونياً. وآخر في الزاوية يتابع أخبار العالم من خلاله هاتفه. وعند أحد أعمدة المحطة القديمة تتكئ ثالثة وتستمع للموسيقى، وتهز رأسها منتشية. ويتساءل المرء، عما يشغل هؤلاء الناس جميعاً؟ الكل يخوض في عالمه الخاص، ووسيلة تنقلهم عبر العالم: هواتف ذكية.
تواصل دائم
في القطار اشتركت في الحوار مع ثلاث سيدات، فتاتان، يبدو عليهما أنهما لم تصلا ربيعهما العشرين بعد، ووالدة إحداهما. بدأ الحديث عن أمور عامة، ثم أثار انتباهي استخدام إحداهن جهاز "بلاك بيري". سألتها –بدافع الفضول ربما- عن سبب استخدامها لهاتف ذكي. جاء جوابها سريعاً: "للفيسبوك". لكن والدتها مازالت تستخدم هاتفاً قديماً. وهو حال صديقتها أيضاً، التي قالت إنها ألغت حسابها من الفيسبوك. والسبب حسب رأيها: "أن الفيسبوك أخذ وقتاً ثميناً من حياتها". أما عدم استخدامها لهاتف ذكي، فهو أنها لا تحتاج الهاتف إلا للاتصال وإرسال الرسائل النصية القصيرة، لا أكثر.
غير أن البعض بحاجة إلى الهاتف الذكي. فيلهلم ياكبسون، فتى في منتصف العشرينات، يرى أن الهاتف الذكي جهاز لا يمكن الاستغناء عنه، فهو يُمَكنُّه من قراءة بريده الالكتروني ومن الاطلاع على أخبار العالم خلال استخدامه وسائل النقل العامة. ويضيف ياكبسون: "جهاز واحد يختصر أجهزة كثيرة، الكومبيوتر والهاتف وجهاز تشغيل الملفات الصوتية". أما ما يقلقه فهو أن استخدامه لمثل هذا النوع من الهواتف، يمنح البعض قدرة الاطلاع على معلوماته الشخصية، لكنه يستطرد بالقول: "استطعت أخيراً أن أقيّد حجم المعلومات التي أعرضها في جهازي".
مخاطر
"له سلبيات وايجابيات"، هكذا تصف آيا موراكي، عازفة الكمان الأميركية من أصل ياباني، استعمال الهاتف الذكي. إذ تقول إن لاستخدام هذا النوع من الهواتف وجهين، يعتمدان على طبيعة الشخص. عن ايجابيات هذه الهواتف تتفق آيا في الرأي مع فيلهلم، لكنها تضيف أن الفوائد الأخرى لجهاز سامسونغ غالاكسي الذي تستخدمه تمكنها من "الاستغناء عن جهاز الكومبيوتر المحمول، استخدام برامج الاتصال المجانية مثل سكايب، ما يمكنني من البقاء على اتصال مع العائلة والأصدقاء حول العالم". ولأن طبيعة عملها تستدعي منها السفر كثيراً، فإنها أصبحت تقضي وقتاً أقل أمام جهاز الكومبيوتر، وتستغني عن ذلك باستخدام هاتفها الذكي.
وتشير آيا إلى سلبيات هذا النوع من الهواتف، بأنها تجعل المرء مدمناً إلى حد ما على التواصل مع العالم الخارجي، خاصة عند الشعور بالملل. الخطورة تكمن، حسب رأيها، إذا كان المرء مشغولاً بعمله، ثم شعر بالتعب أو الملل، فإنه يهرع إلى جهازه محاولاً تغيير مزاجه. غير أن آيا تفعل شيئا آخر "أغلق الهاتف وأمنع الاتصال عن طريق الإنترنت، إلى حين إنهائي عملي". هذا ما تقوله آيا.
"تعزيز روح الفردية"
صورة تتكرر يومياً في كل قطار أو باص يجول شوارع ألمانيا وأوروبا عموماً: الجميع منشغل بجهازه الذكي. يبتعد الإنسان عن الإنسان ويجد ضالته في جهاز صغير يمنحه الراحة من إحداث يوم عمل طويل، أو ربما للبحث عن عالم افتراضي بعيد عن واقع متعب. فهل أصبح الإنسان بسبب التقنية الحديثة أكثر انعزالية؟
الدكتور حميد الهاشمي، الباحث في المركز الوطني البريطاني للبحوث الاجتماعية، يجيب بالقول: "الانشغال الدائم بهذا الجهاز يعزز ما نسميه بروح الفردية لدى الإنسان. الإنسان في علم الاجتماع يُعرّف بأنه حيوان اجتماعي، كائن اجتماعي يأنس بالآخرين، لـ"مجتمعه". وتوفير مثل هذا الجهاز يمنحه الفرصة للقاء الآخرين لكن عن بعد، ما يجعله يمتلك كينونة خاصة تعزله عن مجتمعه الواقعي".
سيل جارف من المعلومات توفرها وسائل الاتصال الحديثة، والإنسان أصبح لا يستغني عن سرعة المعلومة وكميتها. لكن، هل يجعل سيل المعلومات هذا في البيت والعمل وعلى الطريق الإنسان أكثر ذكاء؟ عن ذلك يقول الخبير الاجتماعي: "كل معلومة تضاف تزيد الإنسان ذكاء. التقنية الحديثة واستخدامها يدخلان ضمن مسألة صراع الأجيال، فالجيل القديم يعيب على الحديث أنه يفتقد إلى المعرفة. لكن هذا غير صحيح، فالتقنية الحديثة منحت الأجيال الجديدة فرصة لتلقي معلومات أكبر من غيرها. ما يزيدها ذكاء". بالإضافة إلى أن هذه الأجيال تمتلك وسائل احدث لمعالجة المعلومات.
حين التقيت بآيا في المحطة، لتحدثني عن هاتفها الذكي، وفي غمرة الحديث رن هاتفها معلناً عن وصول رسالة نصية، هرعت بسرعة محاولة الوصول إلى هاتفها في الحقيبة، بدت مسرعة لمعرفة الخبر الجديد، كانت رسالة نصية من والدتها في اليابان. قرأتها ثم التفت قائلة: "في هذا العالم السريع، ينتظر العالم رد فعل سريع أيضاً. إنها الرغبة في القضاء على الإحباط".
عباس الخشالي
مراجعة:عماد غانم