النخب الجزائرية - تنصل من دور محوري وارتماء في حضن السلطة

تعمل النخبة الثقافية والفكرية في أي مجتمع على إبراز تطلعات وطموحات ومشاكل المجتمع الذي تنتمي إليه، وتتميز هذه النخبة عن النخبة السياسية سوءا في السلطة أو المعارضة، بأنها تنتج المعرفة وتتحلى بالروح النقدية واستقلالية التفكير، وممارسة الدور الرقابي على أعمال السلطة وتوجهاتها ومدى التزامها بالمشاريع والمبادئ، التي تحقق طموحات الشعب وحقه في العيش بكرامة.

لكن ماذا عن الجزائر؟ عن هذا يشير الدكتور أحمد رواجعية، أستاذ التاريخ والعلوم السياسية بجامعة مسيلة، إلى أن دور النخبة الفكرية والثقافية في الجزائر غائب تماماً، ولا يوجد له أي صدى في المجتمع ولا تأثير في السلطة، فهي موجودة، لكن بشكل فوضوي. ويشير رواجعية إلى أن إسقاط مفهوم النخبة في الجزائر على حاملي الشهادات العليا، ينطوي على مغالطة كبيرة، فالشهادة الجامعية لا تعبر تماماً عن القيمة الفكرية لصاحبها، ولا يمكنها أن تجعل منه مثقفاً بالمفهوم الصحيح للكلمة. ويضيف رواجعية بالقول: "المثقف الحقيقي هو الذي يشارك من خلال تفكيره وتصوراته ومساهماته في المظاهر المتنوعة للحياة الاجتماعية، وهو الذي يستطيع أن يشخص علة المجتمع ويبادر إلى تقديم الحلول".

لحظة انهزامية وعجز على التكييف

ويرجع الأستاذ محمد بغداد، الإعلامي وصاحب العديد من المؤلفات، آخرها كتاب "دماء الصحراء"، سبب تراجع دور المثقف عن المشهد السياسي والمجتمعي، إلى عدم قدرته على التكييف مع التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع في السنوات الأخيرة، "ومنها تلك اللحظة الانهزامية، التي قبل فيها بالدونية والتبعية للسياسي". ويضيف بغداد في حوار مع DW عربية لقد أفرزت العلاقة غير طبيعية بين المثقف والسلطة منذ الاستقلال، "ظاهرة الزبائنية، أو مقايضة الولاء بالريع"، مشيراً إلى أن المثقف فضل أن يحصل على الريع مقابل تقديم الولاء للسياسي، "بدلاً من التمسك بمبادئه والثبات عليها حتى الموت، وهو ما أدى في النهاية إلى ميلاد عملية اجتماعية ثقافية، يمكن أن نسميها إنتاج النخب المغشوشة، التي أخرجت المثقف ليس من الفضاء الاجتماعي، بل قذفت به في النهاية إلى خارج التاريخ".

الغربة تلتهم نخبنا

من جانبه يشكك الكاتب الصحفي محمد دامو في وجود المثقف في الجزائر، ويؤكد في حوار مع DW عربية أن "المثقف الجزائري موجود، لكن في ديار المهجر والاغتراب، وإن تراءت لنا أحياناً بعض بقاياه داخل الوطن، لكن وجوده في الخارج شيء ثابت بدليل نشاطاته، وإنتاجه الفكري والأدبي المتميز. أما في الداخل فهو بالكاد يستطيع المحافظة على كيانه وذاته، فما بالك بالدفاع عن قضايا مواطني شعبه".

وتتهم السلطة في الجزائر منذ 1962 بأنها تفرغ الساحة السياسية من المنافسين والمنتقدين، سواء من النخب السياسية أو الفكرية والثقافية، مما "جعل النقاش السياسي للسلطة أحادياً ومفرغاً من المضمون"، كما يرى الأستاذ محمد دامو. ويضيف الكاتب الصحفي بالقول: "النظام يهيمن على كل فضاءات الثقافة وأدواتها في البلاد، ويسيطر عليها كما يسيطر على حقول النفط والغاز في الصحراء. وهو يجتهد بكل طاقته لإفشالها وشل فاعليتها وجعلها بوقاً في خدمته دائماً".

وفي تقدير الكاتب بغداد فإن ثنائية الزبائنية وإنتاج النخب المغشوشة، جعلت من المثقف مجرد خادم لرغبات السلطة ويسير تحت رضاها وبتوجيهاتها، لذلك فأغلب المثقفين تمكنوا من الفرار، وحققوا الكثير من الانجازات خارج الوطن. "في الوقت الذي كانوا قد وصولوا إلى أدنى درجات التهميش في وطنهم، الأمر الذي جعل المجتمع يعيش بدون رموز وبدون قيادات اجتماعية، تسعى إلى تأطير القيم وتوجيه المسار العام للفعل الاجتماعي".

السلطة تقدم رشاوى لنخبها

ولا يلوم المتابعون لحركية النخب في الجزائر السلطة، وما تقوم به لتحصين نفسها، من أي هزات قد تعصف بمصالحها، عبر استقطاب النخب ورشوتهم لتبرير سياساتها وإخفاقاتها خلال الفترة الراهنة من عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، التي شهدت الثلاثة وفرة مالية غير مسبوقة في تاريخ الجزائر، ويلقون باللائمة على المثقف الذي سمح لنفسه بأن "يدجن"، على عكس الكثير من المثقفين الحقيقيين الذين رفضوا هذا الأسلوب في شراء الولاءات.

وحسب فوزي سعد الله، صاحب كتاب "يهود الجزائر.. مجالس الغناء و الطرب"، فإن بعض هؤلاء المثقفين اختاروا الصمت "كوسيلة للتعبير عن رفض الواقع، فيما فضل الآخرون الفرار بجلدهم إلى باقي أرض الله ممن لا يتقنون فن الصمت". من جانبه يرى الكاتب الصحفي دامو بأن السلطة في الجزائر تمارس كل أشكال الفساد السياسي، بما في ذلك الرشوة وشراء الذمم، لكن الذين استجابوا لعرضها البائس، هم من "أشباه الكتبة" و"المداحين" و"غلمان الصحافة" على حد سواء، وليس بينهم مثقفين بطبيعة الحال، فالمثقف مثل "طائر الجنة الحر"، يستحيل تدجينه أو ترويضه من أي جهة كانت، كما يرى دامو.

سقف الحرية مغطى بمصالح سلطوية

وفي رأي الدكتور رواجعية فإن المثقف الملتزم لا يمثل إطلاقاً تلك "الشخصية الحيادية التي تكتفي بمشاهدة ما يجري من أحداث دون التدخل فيها والتأثير عليها، فهو مطالب برأيه في كل الأمور التي تتعلق بالحياة العامة لمواطني شعبه". وبذلك فهو يرفض منطق الصمت الذي تدين به أغلبية النخب الجزائرية المعارضة للسلطة، ويبرر فوزري سعد الله ذلك بانعدام سقف الحرية الكافية التي تمكن المثقف من ممارسة حقه دون أن يتعرض للمضايقة. ويضيف رواجعية بالقول: "الحرية موجودة طالما لا تزعج السلطة، وبمعنى أنت حرّ طالما لا تهدد بالدفع نحو أي تغيير يهدد مصالح المستفيدين من الاعوجاج القائم". وهذا ما يفسر ربما غياب النخب عن المواعيد السياسية الهامة كتعديل الدستور وإصلاح مؤسسات الدولة، والمواعيد الانتخابات المصيرية للبلاد، لأن الكثيرين يرون أنفسهم غير معنيين بملفات لن يكون فيها لرأيهم ذا قيمة، إلا بما يخدم مصالح السلطة وأجندتها.

الحل في المراجعة

وللخروج من مأزق العلاقة المشوهة بين النخبة والسلطة والتخلص من النخب المغشوشة والعلاقات الزبائنية التي لم تخدم أي طرف، يرى محمد بغداد أنه لابد من "الانتقال إلى تشييد ثقافة جديدة حول مفهوم الدولة وأساليب إدارة المؤسسات وإعادة النظر في طرق توزيع الثروة، مما يجعل المجتمع في المستقبل أمام رهان القيام بعمليات جراحية تاريخية، ستكون حتمية ومؤلمة، ولكنها ستدفعنا إلى الانتقال إلى مستوى بناء دولة، تستجيب لطموحات الإنسان، وتسير وفق القوانين الكونية الضرورية".