المقامات والأضرحة في لبنان ـ مرآة لمجتمع متعدد الديانات
٥ سبتمبر ٢٠١٠حي الأوزاعي أحد الضواحي الفقيرة في جنوب العاصمة اللبنانية بيروت. والشارع الرئيس، الذي تمتد على جانبيه محال الحرفيين الصغيرة، تناثرت عليه المطبات. وفي الشارع الموازي له، الذي لا يبعد عن البحر كثيراً، ثمة مسجد صغير متواضع، في داخله حجرة صغيرة، غطيت أرضيتها بالسجاد. يوجد قبر عبد الرحمن الأوزاعي (707-774)، الذي أشتهر في النصف الأول من القرن الثامن كقاض وأسس مدرسة فقهية، سُميت باسمه. وخلف شبكة من القضبان تُحيط بالضريح يمكن للمرء أن يرى بعض الأوراق النقدية: ليرات لبنانية ودولارات أمريكية.
منذ عشرين عاماً يتولى هشام خليفة إمامة مسجد الأوزاعي والخطابة فيه. وعن سلفه يعرف خليفة أن قاصدي هذا الضريح ليس من المسلمين فقط: "يأتي إلى هنا أيضاً الكثير من المسيحيين، رهبان ورجال دين، إضافة إلى المؤمنين العاديين". يجلس الإمام في مكتبه المكيف ويوضح أسباب شعبية عبد الرحمن الأوزاعي العابرة للأديان: يُروى أن أحد ولاة بني العباس أمر بتهجير كل المسيحيين من لبناء انتقاماً من المقاومة المسيحية. لكن الأوزاعي كتب رسالة إلى الخليفة أوضح فيها مستنداً إلى أدلة من القرآن والفقه الإسلامي مخالفة هذا الأمر لتعاليم الإسلام. ولذلك أدرك الوالي خطأه وتراجع عن الأمر. إن هذه القصة، التي تورث من جيل إلى آخر وبقيت ملتصقة بالذاكرة الجماعية للبنانيين، وضعت حجر الأساس للدور الأوزاعي كشفيع للمسيحيين. ويروي هشام خليفة أنه حتى الرئيس اللبناني الأسبق شارل حلو، وهو مسيحي ماروني، زار مسجد الأوزاعي أكثر من مرة وقدم نذوره عند الضريح بالتبرع بالشموع والزيت والمال.
تقديس مستمر
في مكان آخر على بعد 40 كم شمال العاصمة بيروت، في جبال لبنان يوجد بقرية أفقا منبع نهر إبراهيم، ويسمى نهر أدونيس أيضاً. ينبع النهر من أحد الكهوف. يُشاع أنه كان تنتشر بهذا المكان في العصر الهيليني تقديس الآلهة أدونيس، احتفاء بالموت والعودة إلى الحياة. وعلى جانب الحوض، الذي يجمع مياه النبع، توجد على مرتفع صغير كومة من الكتل الحجرية، وهي بقايا أحد معابد الآلهة أفروديت. سلم صغير يقود إلى منخفض عبر أدغال الجبل. وعلى الجدار يُرى مرتفع صغير، بدت عليه آثار الكثير من الشموع المحترقة.
سحر، فتاة شابة من قرية أفقا، تقود الزائرين إلى هذا المكان الذي يصعب الوصول إليه. وتقول سحر إن هذا مقام للسيدة مريم العذراء، وإن أهل قريتها والقرى المجاورة يأتون إلى هنا لطلب الشفاء من أمراضهم. وتضيف سحر أن زيارة إلى هذا المقام تساعد في الشفاء من الحمى بشكل خاص. وفي المنطقة المحيطة بأفقا يعيش الشيعة والموارنة.
تعدد الديانات
يُشاع أنه كان تنتشر بهذا المكان في العصر الهيليني تقديس الآلهة أدونيس، احتفاء بالموت والعودة إلى الحياة ينتشر على أرض لبنان الذي توجد فيه 17 طائفة مسيحية ومسلمة معترف بها رسمياً، عدد كبير من المقامات والأضرحة. لكنها لم تعد تُزار جميعها من أتباع جميع الديانات، فالمغارة الصغيرة في أفقا وقبر الإمام الأوزاعي يعدان من الأماكن المقدسة، التي يقصدها المسيحيون والمسلمون على حد سواء. بحثت نور فرا-حداد في موضوع المقامات والأضرحة العابرة للأديان في بلاد الأرز، وتقول فرا-حداد إن عددها يبلغ نحو 30 مقاماً، تُقصد من المسيحيين والمسلمين من جميع أنحاء لبنان. وأجرت الباحثة اللبنانية مقابلات عديدة مع الزائرين وسألتهم عن ديانتهم والعوامل التي دفعت بهم لقصد هذه المقامات.
وتقول فرا-حداد إنه لم يقم أحد من الزائرين بإخفاء هويته الدينية. إن دوافع الزائرين من مسيحيين ومسلمين متشابهة، فالناس يصلون هناك لطلب الشفاء من المرض والحفظ والمساعدة في مكابدة آلام الحب أو النجاح في الامتحانات. ومن أجل ذلك فهم على استعداد للتبرع بالمال والأشياء العينية. كما أن شهرة المقام تتوقف على "نجاحه"، هذا يعني إلى أي مدى يُستجاب فيه للدعوات. وتقسم فرا-حداد، المتخصصة في الأنثروبولوجيا في جامعة القديس يوسف في بيروت، الأماكن المقدسة المشتركة إلى عدة أصناف. وعلى غرار مغارة أفقا توجد أماكن عديدة، تعتبر مقدسة منذ قرون طويلة. إن التقاليد تستمر وتتأقلم مع الظروف الدينية المتغيرة، بحسب فرا-حداد. وفي وعي الناس تبقى لهذه الأماكن أهمية خاصة.
قديسون يتمتعون بشعبية
"زيارة إلى هذا المقام تساعد في الشفاء من الحمى بشكل خاص" إن الأماكن، الموقوفة للأنبياء والشخصيات الدينية الموجودة في الديانتين الإسلامية والمسيحية وتحترم من قبل أتباعهما، مثل موسى ونوح وعمران ومريم العذراء مهيأة لأن تجتذب جمهوراً مختلطاً من الناحية الدينية. والكثير من المقامات المسيحية للسيدة مريم العذراء في لبنان تُزار من قبل المسلمين أيضاً. وأشهر الأمثلة على ذلك حريصا، فهناك يقوم تمثال مريم الضخم المشيد من الحجر الأبيض على أحد الجبال، وإلى جواره تقع كاتدرائية مثيرة للإعجاب. ويمكن رؤية كل من التمثال والكاتدرائية من الطريق السريع قبيل مدينة جونيه الساحلية. وتعترف الباحثة اللبنانية بأنه على الرغم من أن لكل من المسلمين والمسيحيين تصوره الخاص عن السيدة مريم، لكن توجد أوجه تشابه كثيرة في تصرفاتهم عند هذا المقام.
صنف آخر يتعلق بـ"القديسين الوطنيين"، مثل مار شربل أو القديسة رفقة. ويتعلق الأمر هنا بمسيحيين لبنانيين، يُعزى لهم عجائب في شفاء بعض المرضى، كما أن الكنيسة الكاثوليكية تغدق عليهم القدسية. وينتمي هؤلاء إلى طائفة بحد ذاتها، لكن يُنظر إليهم في لبنان على أنهم أشخاص متقون قريبون من الله، بغض النظر عن انتمائهم الديني.
حوار متداخل
بالنسبة إلى نور فرا-حداد فإن مقامات التي تُزار من المسلمين والمسيحيين تعتبر أمثلة حية على الحوار اليومي المُعاش، وتقول عن ذلك: "عشنا الحرب الأهلية، التي خلفت تجارب مؤلمة لدى الكثير من اللبنانيين. وهذه الأماكن تجتذب الناس من مختلف الطوائف والأصول الاجتماعية، لأنهم يذهبون إلى هناك للحاجة نفسها. إنهم يبحثون عن المساعدة. وفي الوقت نفسه يتبادلون الاتصال والنصائح فيما بينهم. وهذا كله يخلف بعض الآثار". وتسمي أخصائية الأنثروبولوجيا ذلك بالحوار الرأسي والأفقي، الذي يجب أن يُأخذ بجدية مثل الحوار الجاري على الصعيد الأكاديمي أو المؤسساتي.
هشام خليفة، أمام مسجد الأوزاعي، لديه تحفظات على عادة الشفاعة بالقديسين. وعلى الرغم من ذلك يرى أن هذه العادة إشارة للتعايش الناجح، حين يزور المسلمون أماكن مسيحية والعكس. "إن المسلم لا يقصد هذه الأماكن إذا كان يشعر بالخوف أو يخشى الضرر. هناك يتم استقباله بالترحاب ويجد راحته".
منى نجار
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010