اللاجئة نجد..من فنجان قهوة وقطعة "كرواسون" إلى قبطان سفينة
٨ أكتوبر ٢٠١٩"كنت رومانسية جداً"، تمر الكلمات بصوت ضاحك ومرح، "أردت الأفضل لأطفالي، تعليم أفضل، وحياة أغنى".
من يعرف نجد بوشي- أول لاجئة سورية تعمل قبطاناً في سفينة ألمانية - يعرف جيداً إصرارها، وحبها للحياة، وطموحها الذي يدفع بها دوماً إلى حافة المغامرة.
قادمة من مدينة حلب السورية، تشق نجد مستقبلها من جديد في مدينة تيرغنزي الألمانية، "الحياة مختلفة هنا، ومكلفة جداً".
لجأت إلى ألمانيا بعد موجة النزوح أواخر العام 2014 لوحدها دون طفليها، اللذان بقيا في انتظارها في سورية.
طفلاها الحافز الأكبر لطموحها، واصفة إياهم بسندها، و"مليئة بالفخر" تروي لنا قصص ابنها علي، 12 عاماً، وتفوق ابنتها ناي، ابنة 16 ربيعاً، والتي تتمتع بحس بديهة وسرعة تعلم مميزة، وتتقن في ذات الوقت خمس لغات.
طموح ولد من أنقاض الحرب
اضطرت نجد في سن التاسعة عشرة بعد وفاة والدها للعمل في الأقسام الإدارية في جامعة حلب، إلى جانب كونها طالبة أدب إنجليزي هناك. واستمرت في هذا العمل حتى بلغت الثامنة والثلاثين، "تنقلت كثيراً بين الأقسام الإدارية، واستطعت أن أكوّن خبرة لا بأس بها".
في لحظة ما وجدت نفسها تتقلب بين أدوار عدة، كأم، وطالبة، وزوجة، وموظفة، وتعود بذاكرتها لتفاصيل الحياة اليومية في سوريا، إلى ضحكات الزملاء والأصدقاء، وإلى شعور الدفء الدفين في قلبها، "أثناء حملي الأول، كنت أشتهي الحامض، ولهذا كانت لدي زميلة تدهن لي دبس البندورة بالخبز".
تروي لنا عن الليالي التي قضتها مع أمها وأخوتها يناقشون العادات والتقاليد، والأفكار، والسياسة في العالم العربي، "لكل منا فكره، هذا التنوع هو ما صنع عائلتي".
هذه اللحظات الصغيرة والحميمية في حياة نجد، وطبيعة الحياة الاجتماعية التي نشات فيها، لم تكن تشير يوماً إلى أن هذه العائلة الكبيرة ستتشتت في بقاع الأرض، "بعد الحرب، لدي أقارب وأصدقاء في السويد، والإمارات، وفرنسا، وغيرها من الدول".
"كانت منطقتي آمنة نسبياً في البداية"، إلا أنه مع اقتراب التهديد إلى منطقة سكنها فضلت أن تواجه مخاطر اللجوء من أجل بناء مستقبل أفضل لأطفالها، "القصف أصبح قريباً، لا ماء، ولا كهرباء، وباتت الحياة أصعب".
"يمشي الناس في الشارع بلا روح"، وتستفيض مشاعرها راسمة بذاكرتها شوارع حلب: "كما لو أنك تحملين على ظهرك همّاً كبيراً، أكياس وحقائب، على رأسك وأكتافك وظهرك، تمشي الناس بلا هدى، وجوه شاحبة وقلوب كئيبة".
تعرف نجد مدينتها جيداً، بإمكانها أن تصف شوارعها عن ظهر قلب، وأن تسرد لك انعكاسات روح أهلها جيداً، ومع هذا فالخوف كفيلٌ بتغيير كل هذا، "ظروفي كانت أفضل من ظروف عائلات سورية أخرى-الله يعين الناس- ولكني خفت، لدي أطفال أريد لهم مستقبلاً مشرقاً"، وفي خضم خشيتها من أن الحرب تسلب الأطفال والنساء والرجال سنوات حياتهم، قررت أن تخاطر بنفسها، لاجئة إلى أوروبا وحدها حتى لا تكبد أطفالها معاناة السفر وتعبه.
رحلة اللجوء المتكررة
جمعت نجد معلومات حول طرق اللجوء، وخططت بحذر، ولكن محاولتها الأولى باءت بالفشل، فبعد ليالٍ عدة بجزيرة يونانية مهجورة، عادت إلى أنقرة، "حرقنا الجزيرة حتى نخرج، وفشلنا". وتوضح نجد مغامرتها الأولى قائلة إنها بعد مغادرتها سورية بإتجاه تركيا، ركبت رحلة محفوفة بمخاطر إلى جزيرة يونانية، حيث علقت مع رفاقها المهاجرين على متن قارب، وأشعلوا النيران في اليابسة للفت أنظار السلطات هناك حولهم. لكن كانت خيبة أملها ورفاقها عندما تمت إعادتهم إلى أنقرة.
يعرف اللاجئون جيداً هذا التعب والخوف اليومي، وتعلم نجد أن اللاجئين مرفوضون، يعيشون على أرصفة الطرقات بانتظار دورهم، "نحن مجرد مبالغ مالية للمهربين، لسنا بشر"، أما هي فتحمل في قلبها خوفاً آخر، إذ وعدت طفليها بلقاء جديد، لتبدأ للمرة الثانية رحلتها، من تركيا إلى اليونان مروراً بإيطاليا، حتى مدينة فرانكفورت الألمانية، "كنت مرعوبة، أردت الذهاب إلى السويد، ولكنني تحت ضغط الخوف قدمت طلب لجوء في ألمانيا".
لم تكن البداية سهلة عليها، فكل ما كان يشغل بالها هو لم شمل طفليها، ومع هذا فإن اتقانها للغة الإنجليزية دفعها لتقديم المساعدة للاجئين في المخيم "من أجل تسريع المعاملات الورقية".
المخيم لم يكن سوى ملعب كرة سلة، في داخله عدة أسرّة، وصل عدد المقيمين فيه إلى أربعين شخصاً، وكان بمدينة تحيطها طبيعة خلّابة، "ولكنها مدينة أغنياء، فكيف لي أن أحصل على بيت أو على متطلباتي اليومية؟"
عودة ناي وعلي إلى حضن والدتهما
بسبب طلاقها من والد طفليها قبل بدء الحرب في سوريا، وجدت نجد نفسها في "تجربة(حياة) صعبة جدا"، امرأة في مقتبل العمر وحيدة، ومسؤولة عن حياة طفلين، "نحن نتعب لأجل أطفالنا". وكان وصولها إلى ألمانيا مجرد بداية، بالنسبة إليها، فإجراءات لم الشمل صعبة وتحتاج إلى تخطيط والكثير من المعاملات الورقية و"الانتظار القاتل". إذ تشترط الحكومة الألمانية استئجار منزل قبل جلب أيٍّ كان عبر لم الشمل، "بسبب ارتفاع أسعار الإيجارات في المدينة باءت محاولاتي بالفشل بداية، ولكن بعد أن قدمت لي إمراة ألمانية المساعدة، استطعنا إقناع البلدية بإيجاد مسكن لي ولأطفالي".
وهكذا تمكنت نجد من معانقة أبنائها بعد نحو عام من وصولها إلى ألمانيا، "خلال أسبوعين فقط التحقوا بالمدرسة.. أبوسهم(أقبّلهما) شو حلوين".
وككل اللاجئين، فإن انتهاء نجد من متطلبات تعلم اللغة الألمانية يفرض عليها البحث عن عمل، "بعد محاولات عدة وجدت عملاً كمحاسبة في مخبز محلي"، كان العمل إلى جانب مديرها الألماني، ممتعاً، ولطيفاً، وبسعادة تروي شعور السكينة الذي اعتراها في ذاك المخبز الصغير، دون أن تدري أن فرصتها القادمة ستكون بسبب "فنجان قهوة وقطعة كرواسون".
فنجان قهوة لبداية جديدة
واصلت نجد عملها في المخبز لمدة عام، "قرر المدير أن يغلق المحل، ولهذا بدأت بالبحث عن عمل جديد"، فأعادت ترتيب حياتها من جديد، "قدمت طلبات توظيف لكل زبائني في المخبز"، حتى وصلت إلى أحد قباطنة السفن في المدينة -مديرها الحالي - إذ اعتاد على اقتناء فنجان قهوة و"كرواسون" من المخبز كل صباح، "حصلت بعدها على وظيفة محاسب على ظهر السفينة".
لم يكن العمل سهلاً، الكثير من الجَلَد الجسدي، والأعمال الشاقة، "مصرة على النجاح"، مر عامان، ولازالت نجد تعد نقود الركاب، وتساعد القبطان، وترتب ظهر السفينة، وتعتني بالتفاصيل الصغيرة، "جاءني المدير ومعاونه يعرضان علي العمل كقبطان سفينة".
"جنون" هذا ما ظنّته في البداية، حتى روت لطفليها، ليقدموا لها دعماً مرة أخرى، "أنتِ لها يا أمي".
ثلاثة أسابيع كانت كفيلة بأن تضعها خلف مقود السفينة، "درست كثيراً، فهناك امتحان نظري وعملي"، وتحت ضغط التدريبات المكثفة، والدراسة اليومية، وجدت نفسها أمام نجاح مبهر، "قال لي مدربي أني أملك شعوراً طبيعياً لحركة السفينة".
استطاعت أن تجتاز امتحان قبول السفينة من المحاولة الأولى، ومع هذا واجهت نجد الكثير من نظرات الاستغراب في البداية، وبعض الاحتجاجات لكونها امرأة ولاجئة، "كان هناك عدم قبول في البداية، ولكن بعد أن تعرّف عليّ الفريق، أصبحوا سعداء جدا بوجودي، وقدموا لي الدعم الكثير"، أما عائلتها فقد رحبت بهذا القرار "معتادة على دعمهم، لدي عائلة متماسكة".
ومع هذا تواجه نجد العالم مرة أخرى، مصرّة على بناء مستقبل أفضل لطفليها، ولتستمر في رحلتها عبر بحيرة تيرغنزي، تبتسم في وجه العابرين يومياً، سعيدة بكل ما تقدمه ألمانيا من حرية تعبير وفرص، "طموحي لن يتوقف هنا".
مرام سالم