الفكر السياسي العربي المعاصر بين الاستمرارية والتحوّل
يهدف هذا الكتاب الذي هو في الأصل رسالة دكتوراه أعدها عمرو حمزاوي، الباحث في شؤون السلام الدولي في مؤسسة كارنيغي في واشنطن، في الفترة ما بين 1998 و2002 إلى إعطاء صورة عن النقاشات التي أسبغت طابعا مميزا على العالم العربي في التسعينيات. وتتألف هذه النقاشات من أربعة أبواب هي أولا المجتمع المدني، ثانيا العولمة، ثالثا الإصلاح الإسلامي، رابعا الماهية الثقافية للطرف "الآخر".
الجديد والقديم على سطح واحد
تمت دراسة هذه المواضيع على ضوء معادلة التوتر القائمة بين التحول الناجم عن ظهور جيل جديد من المثقفين الشباب وانطلاق التيارات الإسلامية القوية من جهة وبين نزعات الاستمرارية من جهة أخرى. وتتضح الاستمرارية من خلال التغيرات التي بدأت تطرأ في غضون الثمانينيات ومن خلال العودة إلى هياكل الثقافة الجدلية في صفوف المثقفين وهيمنة التيارات الفكرية التي ما زالت تهيمن حتى اليوم على النقاشات الدائرة كالعلمانية والنزعات الإسلامية والإصلاحية.
يعتمد اختيار المواضيع على حدة وحجم الحجج المطروحة ليتم بعد ذلك إعطاء صورة عن "خصائص التعامل بين المثقفين". وهنا تتم مراعاة الأبحاث الصادرة بالعربية فقط لكون الحجج المنشورة فيها أعلى مستوى كثيرا من حيث الكمية والنوعية ولكونها تختلف عما يرد في الدراسات الصادرة بالإنجليزية أو الفرنسية حتى لدى نفس المؤلفين. وتبدأ الفترة الزمنية للبحث بغزو العراق للكويت عام 1990 لتنتقل إلى حرب الخليج الثانية التي تلت الغزو. وكان الغرض من ذلك إعداد دراسة مبدئية لخلفية النماذج الفكرية السائدة في العالم العربي. انتهى البحث بالتعرض لكلا أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول والانتفاضة الفلسطينية الثانية.
علمانيون وتقليديون
يتألف الكتاب من أربعة فصول مقسمة حسب المواضيع النقاش المذكورة سلفا. وجاء اعداد كل الفصول على نمط واحد، أي مقدمة الموضوع وعرض حجج التيارات الفكرية الثلاثة حيال الجوانب المختلفة للنقاش. وينتهي كل فصل باستنتاجات ختامية حول مدى معالم الاستمرارية أو التحول. رواد النقاش الدائر حول المجتمع المدني في العالم العربي هم المثقفون العلمانيون الذين يأملون من خلال هذا النقاش تقديم حلول لكافة سلبيات الأنظمة السياسية القائمة. وبما أن التيار الفكري العلماني هو الذي ابتدع مصطلح المجتمع المدني فإن بوسعه أن يحدد بنفسه معايير النقاش في هذا السياق.
هذا ويعترف "العلمانيون" بالنماذج الغربية كمبادئ سارية المفعول عالميا ويحمّّلون ظاهرة الرجوع إلى التقاليد الدينية المتخلفة في رؤيتهم مسؤولية المشاكل التي يعاني العالم العربي منها. أما رواد التيارات الإسلامية فإنهم يطرحون عكس ذلك حيث يرون في الرجوع إلى هذه التقاليد الحل الملائم لتلك المشاكل.
المجتمع المدني والعولمة
فيما ازدادت حدة توتر النقاش الدائر بين التيارات الفكرية المختلفة حول المجتمع المدني أمكن في سياق النقاش المتعلق بالعولمة تخفيف حدة الصراع الشديد القائم، هذا وإن تمت متابعة هذا الجدل تحت مفهومي الحداثة والأصالة. أما في المرحلة اللاحقة، فسيتناول محور الجدل العمليات السياسية والمجتمعية والثقافية للعولمة. هنا تستخدم القوى الإصلاحية مصطلحات العلمانيين والإسلاميين على حد سواء، وتربط بين الفكر العقلاني والفكر المبني على الإيمان مشيرة إلى أن إبراز الفروق بين الحداثة والأصالة أمر محض مفتعل.
المثير للاهتمام في الجدل الدائر حول الإصلاح الإٌسلامي هو "التحرر ولو جزئيا من حواجز المواجهة المستديمة مع الأفكار المبنية على المغالاة في تبني العلمانية". وهنا استطاع الكاتب توضيح حيوية وتعدد المواقف الإسلامية، مؤكدا بأنه لا يتحتم عليها أن تفرض نفسها على المعايير السائدة، ومبينا بأن الرجوع إلى الحالة المثالية لبداية الإسلام يتضمن البحث عن التحديث وإيجاد الإجابة على المشاكل الراهنة، أي أنه لا يعني على الإطلاق قراءة رجعية للأحوال التي قامت في مرحلة الإسلام المبكر أو السعي لإعادة إحياء تلك المرحلة.
الأنا والآخر في نظرية المؤامرة
في رؤية المثقفين العرب تشكل المناقشات الدائرة في أنحاء العالم حول الأمثلة المشار إليها في الفصل الأخير (العلاقة مع الثقافات "الأخرى") كمصرع الأميرة ديانا ورفيق حياتها المسلم المصري دودي ووقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 وانتفاضة الأقصى أي الانتفاضة الثانية، سيناريوهات تهديد تلغي مؤقتا أنماط التفكير الاعتيادية. "بناء على تفوق ثقافات الطرف الآخر تنشأ على نحو اعتباطي جبهة موحدة تضم معسكرات مختلفة، مما يكسب النقاش العلني الدائر طابعا متميزا بصورة جوهرية." لكن هذه الجبهة المشتركة يقوم مقامها بالدرجة الأولى على قاعدة نظرية المؤامرة وشعارات حركة الوحدة العربية.
جمود التوزيع الثابت للتيارات
الهيكلية الهندسية للفصول كرست من ناحية قدرا كبيرا من وضوح النقاش الدائر وشفافيته، إلا أنها نالت من الناحية الأخرى من درجة الديناميكية والحيوية لدى هذا النقاش. حيث لا يوضح الكاتب مدى درجة الخلاف والوفاق بين المثقفين المنتمين على سبيل المثال إلى مدارس فكرية مختلفة. بالإضافة إلى ذلك فإن التوزيع الثابت إلى ثلاثة تيارات فكرية يتسم بالجمود، علما بأن هذا التوزيع لا يعطى التفسيرات اللازمة ولا يتم تخطيه. ولهذا كان لا بد من "الفلترة" القوية، الأمر الذي يعترف حمزاوي بوجوده على الرغم من كل ما طرأ على تطور النقاشات الدائرة ومتابعة سيرها. "تحديد الهياكل الفكرية المهيمنة أمر ملموس على نحو مستديم.كما أن حتمية الانضواء تحت جناح أحد التيارات الفكرية المعترف بها تحد بصورة متزايدة من احتمال ظهور توجهات فكرية جديدة."
يعرض حمزاوي صورة شيقة للنقاش الدائر باللغة العربية بشأن الموضوعات المذكورة سلفا مما يجعل فئات كثيرة قادرة على التعرف عليها. ولا شك أن الأمر يتطلب من هذه الفئات قراءة كتاب حمزاوي بغية إغلاق الستار على التصور القائل إن الإسلاميين وحدهم هم المسيرون للنقاش الدائر، علما بأن أسباب هذا التصور تعود لكون أوروبا منهمكة آنيا بملف الإسلاميين في المقام الأول.
المصدر: موقع قنطرة 2006