الفعل ورد الفعل في التجاوز على الشعائر الدينية
٢١ نوفمبر ٢٠١٣طالبني عدد من الأصدقاء أن أبدي رأيي بمقال عن هذه الأحداث المؤسفة لأن هناك من يستغلها للتصيد بالماء العكر وتجييرها للطعن بالعملية السياسية والإساءة لسمعة الشعب العراقي. فترددت في أول الأمر، لأنه في رأيي لا يمكن الدفاع عن أي من الطرفين. فالموظفان الأجنبيان اللذان أنزلا ومزقا الراية الحسينية ارتكبا تجاوزاً على المشاعر الدينية للسكان، إذ ظهر أن المصري هو من أخوان المسلمين، وتصرفه الأهوج هذا كان بدوافع طائفية مقيتة. أما تصرف البريطاني فكان بسبب التكبر والعجرفة والجهل بثقافة وأعراف الشعب العراقي وعدم احترامه للمشاعر الدينية لأهل البلاد، خاصة وأن البريطانيين وغيرهم من الشعوب الغربية ما انفكوا يرددون القول أن على المهاجرين احترام قوانين ومعتقدات وأديان وأعراف الشعب المضيف، ونحن نؤيدهم على ذلك بحرارة، فلماذا لم يحترم هذا الموظف البريطاني مشاعر الشعب العراقي وهو لا بد وأن يعرف دور الدين في حياة العراقيين وبالأخص في هذه الفترة الانتقالية العصيبة؟ إذ تفيد الحكمة:
"لا تنه عن خلق وتأتي مثله... عار عليك إذا فعلت عظيم"
كما وكان رد فعل العراقيين في ضرب الموظف البريطاني كان بشعاً ومثيراً للإستنكار.
كذلك كتب لي صديق مطَّلع على الوضع، ما يلي:
((استباقا لما قد تكتب عن موضوع ضرب الأجانب في حقول النفط في البصرة، أودّ تبيان بعض الأمور التي قد تفيد لمعرفة حقيقة ما يجري. فمن خلال عملي هناك لاحظت كثرة تجاوزات رجال الحمايات على من يعمل معهم من العراقيين كسواق وأعمال بسيطة اخرى. وقد توقعت ان تحصل مشكلة كبيرة في أحد الأيام، فكتبت الى مسؤول في الدولة واقترحت عليه ان يحجب الفيزا عن بعض من قليلي الأدب من الأجانب. وقد أجاب المسؤول قائلا: "ليذهبوا الى القضاء عند حصول اي تجاوز"، وهذا الاقتراح لا يمكن تنفيذه لأن من يقدم على خطوة كهذه سيخسر عمله فورا...)).
"حمايات من المرتزقة"
وأضاف الصديق في مكان آخر من رسالته: ((إن معظم المشاكل تأتي من شركات الحماية وهم في الغالب من العسكريين السابقين والمرتزقة الذين يعتاشون على أزمات الشعوب المغلوبة على أمرها. أما المهندسون وباقي الاختصاصات الأخرى فهم من ذوي الخبرة وقد عملوا في بلدان ذات ثقافات مختلفة، وهم غالبا بمنتهى الأدب وخاصة الأمريكان منهم. اما شركات الحماية فهم في الغالب أما من الاسكتلنديين او من جنوب افريقيا وهم بمنتهى النزق والشراسة. ولو كانت الحكومة تستمع للاختصاصيين لشكلت فرقة من الجيش لحماية حقول النفط بحيث نتحرك داخلها من دون الحاجة لجيوش الحمايات الأجنبية، وبذلك توفر أموالاً طائلة. ولو نظرت الى تقرير التعداد اليومي ستجد بأن عدد الخبراء لا يتجاوز العشرات، بينما هناك جيش من الحمايات. سمعت بان الراتب الشهري لكل فرد من أفراد الحماية يزيد على 20 ألف دولار، يعمل معهم سواق وحمايات عراقيون يتقاضون ٦٠٠ دولار في الشهر فقط وهم عرضة لابتزاز الارهابيين في محلاتهم ومدنهم الجنوبية....للعلم رجاء)). انتهى
إذنْ، هذه الحادثة وأمثالها كانت متوقعة بسبب سوء تصرفات البعض من الأفراد العاملين في شركات الحمايات الأجنبية ضد العراقيين.
لذلك وجدت من المفيد أن أدلو بدلوي فوجدتني لأول مرة أتفق مع ما صرح به السيد مقتدى الصدر كما نقلته (السومرية نيوز) بغداد – حيث وصف (حادثة إنزال راية الإمام الحسين "عليه السلام" من قبل عامل بريطاني في حقل الرميلة بـ"الشنيع والجريمة"، فيما أكد أن الاعتداء على الموظف كانت "أشنع وأفظع"، مشدداً على أن من قام بالاعتداء عليه "بلا قلب أو أدب أو عقل".)
لا شك أن العراق يمر في مرحلة حساسة وعصيبة جداً من الصراعات الطائفية الدموية، وهناك فئات في الداخل، ومؤسسات دولية وحكومات أجنبية في الخارج تغذي هذه الصراعات ولا تريد للعراق الاستقرار، بل تعمل على إثارة المزيد من المشاكل، ودعم حرب الإبادة ضد الشعب العراقي وبالأخص الشيعة وإظهارهم بمظهر الوحوش لتبرير إبادتهم. إن المنظر المقزز في فيديو الاعتداء على الموظف البريطاني بشع لا يزيده بشاعة إلا فيديو عملية قتل الشيخ حسن شحاته وأربعة من أتباعه في مصر، والتي ارتكبها بوحشية مجرمون من السلفية وبتواطؤ من الرئيس المخلوع محمد مرسي ، كجزء من مخطط دولي رهيب، شديد الإتقان، لإشعال حروب طائفية في دول المنطقة.
سيكولوجية الجماهير
إن ما يحصل في هذه الحالات من أعمال وحشية بشعة لها علاقة بسيكولوجية الجماهير. فمعظم الدراسات التي قام بها متخصصون في علم النفس الاجتماعي تؤكد أن الإنسان الفرد تذوب شخصيته ويفقد فردانيته في الجمهور. ومن المفيد هنا أن نشير إلى مقال للدكتورة حنان هلسة حول كتاب العالم الفرنسي غوستاف لوبون، الموسوم (سايكولوجية الجماهير) فتقول:
(يرى لوبون أن للجماهير خصائص تميزها عن الأفراد، حيث تتناول الخاصية الاولى ذوبان الشخصية الواعية للأفراد وتوجيه المشاعر والأفكار في اتجاه واحد. الجمهور النفسي "ايا تكن نوعية الافراد الذين يشكلونه، وايا يكن نمط حياتهم متشابها او مختلفا، وكذلك اهتماماتهم ومزاجهم او ذكاؤهم، فإن مجرد تحولهم جمهوراً يزودهم نوعاً من الروح الجماعية، هذه الروح تجعلهم يحسون ويتحركون بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر كل فرد منهم لو كان معزولا". في حالة الجمهور تتلاشى الشخصية الواعية للفرد وتصبح شخصيته اللاواعية في حالة من الهياج، ويخضع الجميع لقوة التحريض وتصيبهم عدوى انفلات العواطف، بحيث تلغى شخصية الفرد المستقل ويصبح عبارة عن انسان آلي ابتعدت ارادته عن القدرة على قيادته". (د. حنان هلسة، الحوار المتمدن، 6/2/2011)(3)
غني عن القول أن هذه الحالة العنفية ليست خاصة بشعب معين، كما يحاول البعض إلصاقها بالشعب العراقي دون غيره من الشعوب، بل هي عامة لها علاقة بالطبيعة البشرية في كل مكان وزمان وخاصة في مرحلة الثورات والهيجانات الجماهيرية، إذ حصلت في الثورة الفرنسية، وإثناء الحروب الطائفية في أوربا، والثورة الثقافية في الصين، وكذلك في العراق في السنة الأولى من ثورة 14 تموز 1958.
كذلك أعتقد أنه ليس كل الناس معرضين لعدوى الذوبان في الجمهور في مثل هذه الحالات، إذ هناك من لهم مناعة تحميهم من هذا السقوط، أشبه بالمناعة ضد الأوبئة، فمثلاً عندما يحل وباء الكوليرا في بلد ما لا يصاب به جميع السكان وإنما تصاب به نسبة منهم.
الموقف من الشعائر والطقوس الدينية
قد يعترض البعض على ممارسة هذه الشعائر، كما جاء في بعض التعليقات كقولهم أن الحسين قتل قبل 14 قرناً، فلماذا كل هذه المراسم والشعائر والطقوس وغيرها الآن ونحن في القرن الواحد والعشرين. أقول، بغض النظر عن كوننا نتفق أو نختلف مع هذه الشعائر والطقوس، فهذا الاعتراض غير مقبول، لأسباب عديدة منها أن تراجيدية مقتل الحسين وصحبه ومعظمهم من عائلته وأقربائه بينهم ستة من أخوته، لها رمزيتها ضد الظلم، ومصدر إلهام للمظلومين للثورة على ظالميهم، وثانياً، لأن الشعائر الدينية يجب احترامها في جميع الأحوال، فحق ممارسة الطقوس والشعائر الدينية جزء من حقوق الإنسان. فإذا كنا حقاً نطالب بحرية الأديان والعبادة وممارسة الطقوس والشعائر الدينية فعلينا احترام مشاعر الطائفة الشيعية أيضاً، وإلا سقطنا في الانتقائية والتحيز لطائفة دون أخرى. فهذه الشعائر والطقوس حتى ولو كانت خاطئة، لا يمكن التخلص منها عن طريق القسر والقوة والتجاوزات على من يمارسها، لأن هذه السياسة تؤدي إلى المزيد من التخندق والتعصب والإصرار على ممارستها.
ما يجري الآن في العراق من تطرف ومبالغة في ممارسة هذه الطقوس هو رد فعل على سياسة البعث الطائفية لمنع الشيعة من ممارسة مراسم عاشوراء خلال 35 سنة وباسم التقدمية المزيفة. إذ كما قال لينين: "الدين كالمسمار في الخشبة فكلما طرقتَه زاد ثباتاً فيها".
ومما يجدر ذكره أن اللطم وضرب الجسم بالسلاسل والتطبير هو سلوك البعض من عوام الشيعة، لا علاقة له بالفقه الشيعي، فأغلب فقهاء الشيعة أصدروا فتاوى ضد هذه الممارسات. ولدي مجموعة كبيرة من هذه الفتاوى آخرها فتوى مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران السيد علي خامنئي حرم فيها التطبير والزحف على البطون أمام أضرحة الأئمة واعتبرهما بدعة وضلالة. كذلك أفتى المرحوم آية الله السيد محمد باقر الصدر، مؤسس حزب الدعوة الإسلامية قائلاً: "إن ما نراه من ضرب الأجسام وإسالة الدماء هو من فعل عوام الناس وجهالهم ولا يفعل ذلك أي واحد من العلماء بل هم دائبون على منعه وتحريمه".(4 و 5)
التعامل مع الشعائر والطقوس الدينية
قرأنا في الأدبيات السياسية أن الحزب الشيوعي العراقي في العهد الملكي كان يستثمر هذه المناسبات ويجيرها لصالح الحركة السياسية المناهضة للسلطة آنذاك، فكان الشيوعيون يتصدرون مواكب العزاء ويؤلفون الأهازيج (الردات) ويجعلون من ذكرى واقعة الطف مناسبة لربطها بما يجري في ذلك العهد من مظالم، ويحيلونها إلى تظاهرات وأهازيج سياسية ضد السلطة، والمعروف أن أغلب الرواديد كانوا متهمين بالشيوعية.
إن هذه الطقوس تنتهي تدريجياً بالتثقيف وتطور المجتمع وليس بالإكراه والقسر والاستعلاء والاستهانة بمعتقدات ومشاعر الناس الدينية، فالمردود في هذه الحالة يكون معكوساً، وعلى الأجانب الذين يعملون في العراق أن يحترموا معتقدات وأعراف المجتمع العراقي ويلتزموا بالحكمة: يا غريب كن أديب.