العيش في الكهوف للتعايش مع الوضع الاقتصادي في إسبانيا
٢ ديسمبر ٢٠١٣تُعرف منطقة الأندلس وبالخصوص السهول الواقعة على سفح سلسلة جبال "سييرا نيفادا" المغطاة بالثلوج بتنوع منتجاتها من الخضر. مُنتجات -كطماطم حمراء اللون وهليون أخضر طازج وباذنجال يفتح الشهية- تعكس صورة العيش الرغيد في هذه المنطقة. لكن معظم هذه المنتجات يتم تصديرها أو ينتهي الأمر ببعض منها في القمامة إذا لم تجد مشتريا في سوق الجملة للخضر. هذه الخضروات الملقاة تلقى إقبالا عند الكثير من المحتاجين كالفتاة الأندلسية "بيا" التي تحاول بكل جهد الحصول على هذه الخضر من حاويات القمامة.
عليها أن تسرع حتى لا يراها حراس سوق الجملة في مدينة غرناطة وهي تنتقي الخضر من حاويات النفايات. فالخضر في هذا الصباح الباكر جميعها طازجة لأن الباعة يرموا الخضر الني تسقط من الصناديق وكذلك الخضر التي لا يجب عليهم بيعها. هذا العرض الكبير من الخضر في حاويات القمامة يُعتبر بالنسبة لأشخاص مثل "بيا" فرصة للحصول على غذاء مجاني لأسبوع كامل.
فالفتاة الإسبانية البالغة من العمر 30 ربيعا تستقل كل أسبوع تقريبا الحافلة إلى سوق الجملة وتنتقي من حاويات القمامة هناك ما يمكنها حمله من الخضر. وفي أغلب الأحيان تحصل على خضار لا تفسد بسرعة. أما إذا كانت تريد لحما أو سمكا فهي تطلب ذلك من أصحاب المحلات التجارية في السوق اليومي وإذا ساعدها الحظ فإنها تحصل على بعض المتبقيات.
تنحدر "بيا" من مدينة مدريد وكانت تأمل أن تصبح معلمة في يوم من الأيام، ودرست في إيطاليا تاريخ الفنون، ثم انتقلت إلى برلين لبضع سنوات وعملت. فقد كانت "بيا" منفتحة دائما على ظروف غير عادية في حياتها.
وبعد هذه التجربة في برلين انتقلت "بيا" في نهاية المطاف إلى إسبانيا. في غرناطة بدأت تأخذ دورات دراسية في الجامعة واجتازت امتحانا يُخولها لها بعد ذلك تدريس التلاميذ في المدرسة. في هذا الحين حطت الأزمة الاقتصادية برحالها في إسبانيا وتغير الوضع تماما وأصبح من اليقين بأن "بيا" لن تحصل على وظيفة قط.
ظروف عيش غير معتادة
هذه التجربة التي مرت بها "بيا" تركت أثرا سيئا على حياتها اليوم، والفراغ يملئ عينها عندما تتذكر هذا الوقت وهي تُمسك بقدح من القهوة وتتدفأ به وتقاوم برودة أيام الخريف إذ أن سفوح جبال سييرا نيفادا يمكن أن تشهد بردا قارسا في بعض الأحيان. وتعيش "بيا" في كهف بدون مدفئ وهو أمر معتاد في مدينة غرناطة لأن الكثير من الناس الذين يعيشون في ضواحي المدينة الأندلسية يعيشون في كهوف جبلية قديمة بدون كهرباء ومياه، كانوا قد استولوا عليها بطريقة غير شرعية.
أسباب ذلك متعددة، فمن بين سكان هذه الكهوف هناك أشخاص تركوا حياتهم العادية وهجروها من أجل حياة أكثر إشباعا ولاجئين من إفريقيا يبحثون عن حياة أفضل ومتسولون لم يجدوا مكانا آخرا يعيشون فيه. أما الشابة الأكاديمية "بيا" فهي تُرجع عدم عيشها في بيت دافئ في وسط مدريد إلى إخفاق الحكومة الإسبانية. لكن السبب الرئيسي الذي دفع بالشابة الإسبانية "بيا" للعيش في هذه الظروف ليس الفقر وإنما حب المغامرة للعيش في هذا الكهف.
الدراسة في الجامعة والسكن في الكهف
قبل ثلاث سنوات تعرفت "بيا" في حصة المسرح بالجامعة على فارس أحلامها، والحديث عن ذلك يجعلها تبتسم بدعابة تقريبا. ففارس أحلامها كان شابا متهورا يدرس في جامعة غرناطة ويعيش في كهف، ما أثار اهتمامها جدا وانتقلت للسكن معه. ولكن هذا الحب انهار بعد ذلك وغادر فارس الأحلام وتركها هي والكهف معا. والآن تعيش وحدها بالكهف وسط الغابة ولا تشعر بأي خوف في ظلام الليل، فحتى الآن لم يحدث شيء، على حد قولها.
أثناء الحديث تطبخُ "بيا" وجبة من نبات السلق على نار مكشوفة في موقد بجوار مدخل الكهف، هذه الوجبة من الخضار التي حصلت عليها من حاوية القمامة في سوق الجملة. تدهورت أوضاع "بيا" ومعها أوضاع العديد من الإسبان بسبب الأزمة المالية حيث قامت الحكومة الإسبانية بتطبيق سياسة تقشفية واسعة في قطاع التعليم وتقول "بيا" في هذا الصدد: "ببساطة ليست هناك وظائف للمعلمين في المدارس العامة". وتم تسريح العديد من المعلمين وعرف قطاع التعليم والصحة على العموم تغييرات حادة وتضيف قائلة: "بالنسبة لي لم يعد هناك أي مجال لتوظيفي".
لحظات من السعادة على الرغم من مخاوف كبيرة
أصبحت "بيا" الآن سجينة هذا الكهف في مدينة غرناطة ولا تعرف حقا كيف ستُغير حياتها أو ماذا يخفيه لها المستقبل، وتقول: "لدي كثير من الوقت للتفكير". وتضيف أيضا وهي تلعب بأناملها في شعرها الداكن: "في هذا الكهف أمر بتجربة شخصية حقيقية، فأنا في أعماق الأرض، أعيش في هدوء تام والقراءة على ضوء الشموع شيء رومانسي أيضا".
وفي هذه اللحظات التي تحكي فيها "بيا" عن تفاصيل حياتها وهي تدخن سيجارة حشيش بدى التعب وكأنه ذهب فجأة، وخيمت في الجو صورة يقينية عن "بيا" وارتباط حياتها بهذا المكان. لاسيما وأن هناك في الواقع انطباع كما لو أنها لم تفكر أبدا بأن تعمل في يوم من الأيام في وظيفة ما. ولكن هذا الانطباع سرعان ما تلاشى من أعينها لتعود بكيانها إلى الواقع وتقول: "أعتقد أن ما يحدث هنا ببلدنا هو شيء طبيعي، فالموارد محدودة والناس يعملون كثيرا ولا يتقاضون إلا القليل من المال".
ظروف حياة يومية قاسية
تعمل "بيا" من وقت لآخر لكي تتمكن من شراء بعض اللوازم الضرورية للحياة. ففي فصل الصيف تعمل لبضعة أسابيع في حقول فرنسية كمساعدة في الحصاد لكي تتمكن من الحصول على بعض الضروريات كالكتب أو بطاريات للراديو حتى لا تشعر بالوحدة. وأما عن السؤال إذا ما كانت تفتقد لشيء من الحياة في المدينة أو حياة عملية منتظمة عادية ودخل آمن؟ فجوابها كان: "ربما لحمام ساخن". ففي الصيف وكذلك في الشتاء لا يمكنها أن تستحم إلا في نافورة قرب الكنيسة التي تبعد ببضعة مئات من الأمتار عن الكهف في المدينة.
أهداف "بيا" وأحلامها ليست كثيرة فهي تقول: "على الرغم أنه لدي الكثير من الشكوك إلا أنني أظن أيضا أنني سأعيش في المستقبل على التموين الذاتي وسأصلح بيتي بنفسي وسأزرع ما أستهلكه بنفسي أيضا". وماذا عن إنشاء أسرة: "في وقت لاحق" وتضيف "على الأقل ليس الآن". وترجع ذلك إلى: "الآن أنا في مرحلة الاكتشاف".
فعندما تزور أصدقائها في الشقة المشتركة التي سكنتها من قبل معهم في مدريد فإنها تشعر بالضياع. فالحياة تسير في مدريد بوتيرة سريعة والناس في عجلة دائمة، والكل يعيش جنون الرغبة في امتلاك منزل أو شقة. وتصف "بيا" ذلك بــ: "قصور من هواء". وهذا ما تسبب في الفقاعة العقارية التي ضربت إسبانيا وتسببت في أزمة مالية أيضا. فهي لا ترغب في التغيير في الحياة التي تعيشها حاليا. أما النتيجة التي استنتجتها "بيا" من هذه الأزمة أنها لا تثق في الحكومة.