العنوسة في تونس معضلة تبحث عن حلول
٣ يوليو ٢٠١٢تبلغ حبيبة من العمر 38 سنة، وهي عزباء تنحدر من الشمال الغربي لتونس. تعمل حبيبية موظفة بإحدى الوزارات منذ سنوات، بعد دراسة دامت عامين بأحد معاهد التكوين المهني في اختصاص "مساعدة إدارة". وتسكن حبيبة بأحد المراكز المخصصة للطالبات مقابل الإشراف عليهن في "فترات المراجعة" من الساعة السابعة مساء حتى الساعة العاشرة ليلا.
تبدأ حبيبة يومها باكرا فتستقل الحافلة انطلاقا من الضاحية إلى قلب المدينة حيث عقر عملها. وتقول حبيبة إنها تتألم طول الطريق عندما ترى الأزواج يرافق بعضهم بعضا، أو يصطحبون أبنائهم للمدرسة أو للمعهد. وتنظر إليهم بعين الحسد وتبكي لحالها وقد عفى الزمن على أحلى سنوات عمرها. وتضيف موضحة "لقد أصبحت لا أرغب في مخالطة المتزوجات، ولا أريد أن أحضر حفلات الزواج. فكلما حضرت حفل زواج إحدى صديقاتي إلا وعدت إلى سكني وإلى سريري الموحش وأنا باكية، لا أستطيع أن أتمالك نفسي عن البكاء لحالي، لا زوج يونس وحدتي ولا قريب يرافق وحشتي. الألم يعصرني ليلا ونهارا".
"تماش حاجة؟"
وتضيف حبيبة أن حال العزباء التي ترغب في الزواج أصعب مما يتصوره الناس، "لقد أصبحت أكثر حدة في طبعي وأكثر انفعالية، كما أصبحت أتجنب زيارة أهلي وعشيرتي لأن السؤال الذي يتردد دائما على لسان أمي وقريباتي "ثماش حاجة"، أي هل هناك خبر سار. تصوروا أنني قد أرد على السؤال مرات عديدة في اليوم عند زيارة أهلي، فهم لا يرون سعادتي إلا في زوج ينتشلني من الوحدة. وأنا يقتلني السؤال مرات عديدة في اليوم".
تروي حبيبة أنها تعرفت على العديد من الشباب عبر شبكات التواصل الاجتماعي ومواقع الدردشة، إلا أن غياب الرغبة في الزواج، حسب رأيها، تظل القاسم المشترك لدى "شباب اليوم". وتقول حبيبة إنها قابلت العديد من الشباب بعد فترة تعارف على الانترنت، ولكن الشباب التونسي لم يعد يرغب في الزواج لظروف الحياة الصعبة. وتضيف "كلما قابلت أحد الشباب أرجع إلى سكني مصدومة، فلا رغبة لديهم إلا في تمضية الوقت دون أي ارتباط الرسمي".
حبيبة أصبحت خبيرة بمواقع التعارف على الانترنت. وتبين أنها تدخل إلى المواقع بأسماء مستعارة لأنها لا تريد أن يتعرف عليها أحد من معارفها. وتعدد حبيبة المواقع وتبين مزايا كل موقع بثقة في النفس ومعرفة دقيقة بخفاياها، موضحة أنها تلج المواقع التي يزورها التونسيون فهي ترغب في زوج تونسي.
أرقام مفزعة
ويرى خبراء أن ارتفاع أرقام العنوسة في تونس يعود إلى بطالة الشباب المقبل على الزواج، فوراء كل شاب عاطل عن العمل، فتاة غير متزوجة. وترى مليكة البجاوي الورغي، مديرة مساعدة مكلفة برعاية الأسرة بوزارة شؤون المرأة والأسرة التونسية في حديث لـ DWعربية، أن أسباب تأخر سن الزواج لدى الفتيان كما الفتيات يعود أساسا إلى "الظروف الاجتماعية كالبطالة والفقر وطول مدة الدراسة وكثرة متطلبات القرين وغلاء المعيشة وتدخل العائلة في اختيار القرين..." ويذكر أن هذا الموضوع كان تحت النظام السابق من المواضيع من الحرمات المسكوت عنها، لأن التساؤل حول الظاهرة يقود آليا إلى التساؤل عن مسبباتها، وهي مشكلات البطالة والفقر.
وترى زمليتها، أحلام العامري، رئيسة مصلحة مكلفة بالتثقيف الاسري بنفس الوزارة أن حوالي 70 بالمائة من حالات عزوف الشباب عن الزواج تعود لعوامل مادية، وتتساءل كيف لشاب بلغ من العمر 45 سنة وما يزال عاطلا عن العمل أن يتزوج، وتضيف أن شروط الزواج المجحفة تساهم بقدر كبير في تفاقم ظاهرة العنوسة. وفي دراسة أعدها الديوان التونسي للأسرة والعمران البشري سنة 2010 برز جليا إرتفاع نسب العنوسة عند النساء في أفضل فترات الخصوبة لدى المرأة إضافة إلى التأخر المتواصل في سن الزواج بالنسبة للجنسين، إذ يبلغ معدل عمر الزواج عند النساء سنة 2008 قرابة 28 سنة و34 سنة لدى الرجال.
"الزواج مؤسسة جنسية"
يرى أستاذ علم الاجتماع، محمد الجويلي، أنه عندما نتحدث عن "العنوسة" كمفهوم سوسيولوجي نعبر عن موقف معين، ويعتبر أن مصطلح العنوسة لم يصنعه علماء الاجتماع بل هو مفردة عربية تحمل موقفا قيميا أكثر منه مفهوما علميا، ويحبذ أستاذ علم الاجتماع استعمال مصطلح تأخر سن الزواج.
ويقول الجويلي في حديث لـ DWعربية أن تأخر سن الزواج ظاهرة ملفتة، فقد قدّر الخبراء معدل سن الزواج بالنسبة للفتى التونسي بـ 34 سنة وسن الفتاة بـ 29 سنة، واعتبر ذلك ترجمة لديناميكية ديموغرافية جديدة لعل من أهم أسبابها تمدرس الفتاة لسنوات متقدمة من العمر، ورغبة بعض الشباب في الاستمتاع بالحياة بعيدا عن التزامات مؤسسة الزواج إضافة إلى الصعوبات المادية التي تعيق المقبلين على الزواج.
ويعتقد أستاذ علم الاجتماع أن توجه المجتمع نحو الفردانية وتقلص دور العائلة التي كانت تشرف على تنظيم الزواج وتوفر له كل أسباب النجاح من أهم اسباب تأخر سن الزواج في تونس. ويعتبر أن الاختيار الفردي للقرين وصعوبة ايجاد الشريك المناسب بعد تشظي كل الارتباطات الاسرية والعشائرية والقروية التي كانت تنظم عملية الزواج. ويضيف محمد الجويلي أن مؤسسة الزواج كانت ولا تزال مؤسسة "جنسية" ومع انتشار العلاقات العاطفية والجنس خارج إطار الزواج تعمقت ظاهرة "العنوسة" كظاهرة اجتماعية.
وحول العلاقات الافتراضية، يتساءل الجويلي هل تتحول العلاقات الافتراضية التي تستعمل الاسماء المستعارة والتخفي وراء شخصيات افتراضية إلى علاقات "واقعية". ويعتبر الانترنت بديلا ممكنا للبحث عن شريك في ظل المتغيرات الاجتماعية ولكن في غياب الدراسات المعمقة حول هذا الموضوع يصعب التكهن بمدى قدرة وسائل الاتصال الحديثة على المساهمة في التعارف وبناء علاقات واقعية تفضي للزواج.
ازدهار وكالات الزواج
وأمام تفاقم ظاهرة العنوسة إزدهرت وكالات الزواج في غياب شبه كلي للمجتمع المدني ولمؤسسات الرعاية الرسمية. وتقول ريم الورتاني ، المختصة في علم النفس وصاحبة وكالة للزواج اختارت وسط العاصمة مقرا لها، أن العنوسة تعد اليوم أكبر مشكلة في تونس، بل أكبر كارثة على حد تعبيرها، وتوضح "تصوروا أن هناك أكثر من 3 ملايين بنت ورجل قادر على الزواج بين سن 24-50 سنة ما يزالون عزابا"، وتؤكد أنها أرقام رسمية جعلتها تقرر فتح وكالتها.
وتوضح ريم الورتاني في حديث لـ DWعربية "أن العزاب الذين يقبلون على خدمات الوكالة ينحدون من مختلف الفئات الاجتماعية، من فقراء المدينة وأغنيائها على حد السواء. وأن الخوف من الآخر وغياب الثقة وانعدام الوقت للباحثين عن الزواج يمثلان أهم أسباب الإقبال على وكالات الزواج. وترى أن الفقر والبطالة وغلاء المعيشة يفاقمان الظاهرة من سنة إلى أخرى.
وتقوم الوكالة بدراسة كل ملف على حدة دراسة اجتماعية ونفسية وثقافية وتحاول أن تقرب بين الراغبين في الزواج. وتوضح أنها قامت بتزويج مئات الفتيات منذ أسست وكالتها سنة 2001. وتؤكد أن عوامل نجاح وكالات الزواج يكمن في السرية والثقة.
وترى صاحبة هذه الوكالة أن الانترنت وإن وفرت فرص اللقاء بين الباحثين عن شريك الحياة، إلا أنها لا تبني عامل الثقة بينهم، ولا يتحقق ذلك إلا بالمقابلة المباشرة. فالشخص البعيد المتخفي وراء حاسوبه لا يمكن أن يكون زوجا أو زوجة إلا بملامسة الواقع ومقابلة الناس والخروج من العالم الافتراضي.
خالد بن بلقاسم / تونس
مراجعة: حسن زنيند