"العالم هو رنين موسيقي": 100عام على ميلاد جون كيج
٥ سبتمبر ٢٠١٢أحد الأعمال الموسيقية الأكثر روعة للفنان كيج، والذي يعتبره بنفسه من أعماله المفضلة، لا يمكن تسجيله وليس هناك من بديل سوى الحضور أثناء عرض العمل الفني الذي سماه كيج بكل بساطة " القطعة الصامتة". رسمياً يُرمز لهذا المقطع ب"4،33" أي أربع دقائق وثلاث وثلاثين ثانية، وهي مدة الأبواب الثلاثة المكونة "للقطعة الصامتة" التي يقوم بعرضها مجموعة من الموسيقيين الجالسين، دون أن تصدر منهم أية حركة، عدا عازف البيان الذي عمل من مكانه لإنزال غطاء مفاتيح البيانو. واستغرقت عملية التغطية هذه أربع دقائق وثلاث وثلاثين ثانية وانتهت برفع الغطاء عن مفاتيح العزف. وبذلك انتهى عرض العمل الفني. وفي اليوم التالي أشارت الصحف في تعليقاتها عن العرض أن" الجزءَ الكبير من الجمهور تملكه الغضبُ، كما وقف أحد المشاهدين وصاح: لنطرد هؤلاء الأشخاص خارج المدينة!".
الدفع بالجمهور إلى الإصغاء
في عام 1952 كان كيج يبلغ من العمر أربعين عاماً، وكان متعودا على تصفيقات الجمهور احتفاءً بمؤلفاته الموسيقية ولم يود في يوم ما إغضاب الجمهور، بل هدف الى الدفع به إلى الإصغاء. في غرفة هادئة عازلة للصوت، تنصت كيج على جهازه العصبي وعلى سريان الدم في عروقه، فأدرك أن السكون لا يعني الغياب الكامل للرنين في الفضاء، بل هوفقط غياب لرنين تم إحداثه عن قصد. فقطعة "4،33" لا تدل على لاشيء وإنما تشير إلى أنه رغم عدم القيام بعزف قطع موسيقية فالفضاء مملوء بالرنين الموسيقي. وبذلك فإن فقطعة "4،33" تشكل توافقا بين الفن وفضاءات العالم.
من الشعر الى الموسيقى
في الخامس من شتنبر/ أيلول من عام 1912 وُلد جون كيج في لوس أنجلس، وكان أبوه مخترعاً وكانت أمه صحفيةً. أنهى كيج المدرسة بنقط جيدة وكانت تراوده وقتها الرغبة في أن يصير شاعراً ثم سرعان ما تخلى عن هذه الفكرة ليفكر بعدها في أن يصبح قساً أو مهندساً أو رساماً. فركز في البداية على الموسيقى التي استخدمها في إغناء شعره الذي تم نشره في الصحف والكتب. ثم تعلم التأليف الموسيقي عند الملحن العصري المشهور آنذاك أرنولد شونبرغ. وألف كيج قطعا ذات توجه جديد في فنون الإيقاع والرقص أواخر الأربعينيات من القرن الماضي. غير أن حياته انقلبت رأسا على عقب بسبب ضعف دخله وتناول المخدرات وشرب الخمر وفشل حياته الزوجية.
وخرج كيج من الأزمة التي كان يعيشها بمحض الصدفة. فعبر كتاب أوراكل الصيني عثر على طريقة في إبداع مقاطع موسيقية لاترتبط بمشاعر الحب أوبمشاعر الكراهية، وانطلق وفق شعار" تهدئة الروح وإذلالها" مقتبسا في ذلك أحد الفلاسفة الهنود. وحصل كيج في ذلك على سند أصدقائه مثل الفنان التشكيلي روبرت غاتشنبرغ وجابس جونز وصديقه الراقص ميرسيه كونينغام.
الطبيعة هي الموسيقى والموسيقى هي الطبيعة
الإبداعات الموسيقية التي خلفها كيج وأفكاره المؤثرة غيرت من المسار التاريخي للموسيقى، فأعماله مثل"موسيقى التغيير" أو عمله الأسطوري "حفل للبيانو وللفرقة الموسيقية"، والتي عُرضت في وقت مبكر في ألمانيا، وكذا عروضه التي تم بثها على شاشات التلفزيون والأساليب الموسيقية المختلفة أوموسيقى المسرح تشكل قيمة مضافة لتاريخ الفن، حيث إنها حظيت أيضا بإعجاب العديد من زملائه الفنانين. وما كانت بعض الأعمال الفنية التجريبية المعاصرة لترى النور لولا ابتكارات كيج.
وحتى قبل وفاته نهاية شهر أغسطس/ آب من عام 1992، لم يتسلل التعب الى كيج، حيث كان يسعى دوما إلى إبداع مقاطع موسيقية هدف بها إلى "تقليد أسلوب تأثير الطبيعة" كما يقول بنفسه.
على مستوى النوعية ليس هناك من فرق كبير بين عملية الإصغاء لموسيقى كيج والتنصت بوعي كامل على ما يحدث من رنين في الفضاء المحيط. ويعطي كيج بنفسه مثالا على كيفية حدوث ذلك عندما انتقل مع صديقه ميرسيه إلى شقة في أعلى طابق بعمارة بشارع Sixth Avenue في مدينة نيويورك وهو من أكثر الشوارع التي تعج بها وسائل النقل. وكان كيج يوضح لزواره أنه ليس بحاجة إلى مذياع " فهو يكتفي بفتح النافذة فقط".