الصخب والجنون -عشرينيات برلين الذهبية
١٥ يونيو ٢٠٠٧يقصد بالعشرينيات الذهبية على المستوى الاقتصادي والسياسي الفترة ما بين عامي 1924و1929 أي عهد المستشار ووزير الخارجية شتريزيمان الذي استطاع أن يتم عملية الإصلاح النقدي ويوقف التضخم الرهيب، لتبدأ الولايات المتحدة في ضخ أموالها في البلاد وتساعد الاقتصاد الألماني على النهوض مجددا، كما دخلت ألمانيا عصبة الأمم وبفضل شتريزيمان اطمئن العالم إلى أن ألمانيا لم تعد تشكل خطرا مهددا، هذه الفترة للأسف لم يكتب لها الامتداد بسبب الكساد العالمي الكبير 1929، وأيضا وفاة شتريزيمان ما عبد في نهاية المطاف الطريق لصعود هتلر إلى سدة الحكم في عام 1933.
لكن على مستوى الحياة الثقافية والاجتماعية يقصد بالعشرينيات الذهبية هذا الزخم الهائل من الإبداع الفني سواء في مجال السينما أو الأدب والفن التشكيلي والمسرح وكذلك أسلوب الحياة المنطلق والمتحرر من القيود البرجوازية المرتبطة بالعهد الفيلهلميني البائد، لم يكن هذا الإبداع الفني أو الانطلاق الحياتي مرتبطا بالضرورة بفترة الانتعاش الاقتصادي والاستقرار السياسي، بل بدأ قبلها، وبرزت معالمه في العاصمة برلين التي كان تعد آنذاك ثالث أكبر مدينة في العالم بعدد سكانها البالغ 4.3 مليون نسمة، ونقطة جذب ثقافي للفنانين من شتى أنحاء العالم.
برلين ترقص الشارلستون
شباب عشرينيات القرن الماضي في ألمانيا نشئوا في فترة الحرب العالمية الأولى، وفتحوا أعينهم على الحياة في فترة التضخم وانهيار العملة، وكان سعر الدولار يتغير ما بين عشية وضحاها وتتغير معه حياة البشر. هذه الحياة المتقلبة أدت إلى تلاشي القيم لدى الشباب وعدم الإيمان بشيء سوى بالخفة التي تميز طابع الحياة. ومع الصعود المجنون لسعر الدولار والذي وصل في النهاية إلى بليون مارك، كان هناك شباب مغامر عرف الطريق إلى بورصة الأسهم، فصار غنيا بين يوم وليلة، فيما شارف آخرون على الموت جوعا. هذا التجاور يصفه الصحفي والمؤرخ الألماني الشهير سيباستيان هافنر في كتابه "قصة حياة ألماني. ذكريات من 1914-1933": "في ظل كل هذه المعاناة واليأس والفقر المدقع، نمت حالة من الانتعاش الشبابي الفائر والانغماس في الملذات وسادت أجواء كرنفالية... عدد لا يحصى من البارات والملاهي الليلية ظهرت فجأة. أزواج من العشاق الشباب تجولوا في أحياء الترفيه والمتعة وبدا المشهد وكأنه من فيلم عن طبقة الأغنياء. في كل مكان كان الجميع مشغولين بالحب، في عجالة ولهفة. نعم، الحب أخذ طابعا تضخميا أيضا". هذا الانطلاق الراقص صاحبته موسيقى الجاز التي بدأت في العشرينيات "عصر الجاز" في غزو جميع أنحاء العالم، ففي عام 1924 كانت فرقة ديوك إلينغتون “Chocolate Kiddies” من أولى فرق الجاز الأمريكية التي عزفت في برلين. رقصة الشارلستون كانت هي الموضة السائدة، في الحانات والبارات. كما تخلت الموضات النسائية عن الاحتشام السائد في العصر الفيلهلميني، فكانت ملابس السهرة شبه عارية والتنورات القصيرة أمرا عاديا.
الصخب الغاضب
لكن الوجه الآخر لهذا الصخب كان الفن والأدب يعبران عنه بنظرة نقدية فاحصة دون تجاهل البؤس والألم اللذين طبعا الحياة. فكان فيلم "متروبوليس" للمخرج فريتز لانغ يعكس انسحاق الطبقة العاملة وابتلاع وحش الرأسمالية لها. كما صور فيلم "الملاك الأزرق" ليوزف فون شتيرنبيرغ وبطولة مارلينه ديتريش، المأخوذ عن رواية "هاينريش مان "الأستاذ نفايات" الانهيار الخلقي الذي ساد المجتمع في هذه الفترة. وظهر في الأدب تيار "الواقعية الجديدة" الذي كان يصف بكلمات بسيطة واقع الحياة اليومية. الشاعرة البرلينية ماشا كاليكو التي حلت مئوية ميلادها في السابع من يونيو/حزيران هذا العام، كانت من رواد هذا التيار، قصائدها وصفت ببساطة وغنج لطيف أحاسيس شباب برلين الفقراء الذين لا يجدون مكانا للتلاقي وتبادل القبلات سوى أثناء نزهة بقارب نهري صغير. كاليكو كانت أيضا مثالا للمرأة الجديدة المتحررة الواعية بذاتها وباستقلاليتها. "المقهى الروماني" المقابل لكنيسة "الذكرى" في قلب برلين، حاليا "مركز أوروبا التجاري"، كان ملتقى للأدباء والفنانين، هناك كان يلتقي الكاتب الساخر كورت توخولوسكي والروائي ألفرد دوبلين صاحب "برلين، ميدان ألكسندر" وإريش كيستنر الذي كتب عام 1931 رواية "فابيان" الشهيرة التي عكست التمزق بين الانتهازية التي سادت هذا العصر والالتزام الخلقي. هذا الطابع الواقعي للفن انعكس أيضا في رسوم أوتو ديكس وماكس بيكمان وكريستيان شاد، إلى جانب ذلك لاقت الأعمال الطليعية للفنانين الدادائين والسورياليين كهانس أرب وماكس إرنست وبول كليه اعترافا وقبولا خلال فترة العشرينيات لأنها كانت تعكس الجنون الذي أصاب الحياة جراء الحرب والدمار وهيمنة الماكينة الرأسمالية .
برلين مدينة عالمية
البرليني سيباستيان هافنر يشهد في مذكراته أن برلين عاشت في فترة شتريزيمان انفتاحا على العالم وقبولا للآخر، كانت مدينة مفتوحة، ولم يكن هناك رفض لما سمي بأمركة المجتمع، على الأقل في أوساط الطبقة المتوسطة التي ينتمي إليها، كما أن الاستقرار الاقتصادي الذي جلبه شتريزيمان معه أدى إلى التقارب بين طبقات الشعب، فلم يعد هناك هذا التفاوت الشاسع بين الأغنياء والفقراء وتلاشت الفروق بين الجنسين: "في ذاك الوقت ورغم كل شيء كنا نستشعر هواءً منعشا في ألمانيا، وغيابا ملحوظا للأكاذيب التقليدية. الحواجز بين الطبقات صارت رقيقة وهشة- ربما كان ذلك أثر جانبي محمود للفقر الذي أصاب الجميع بشكل عام. كثير من الطلاب كانوا عمالا إلى جانب دراستهم. وكثير من العمال درسوا إلى جانب عملهم... العلاقات بين الجنسين كانت أكثر انفتاحا وحرية- ربما كان ذلك آثر جانبي محمود للعنفوان والانطلاق الذي ساد الحياة لفترة طويلة...وأخيرا بدأت تبزغ إمكانية جديدة في العلاقات بين الشعوب، قدر كبير من عدم التكلف واهتمام أكبر بمعرفة بعضنا البعض وسعادة كبرى بتنوع أجناس البشر. كانت برلين آنذاك بشكل ما مدينة عالمية."