السودان تحت وطأة الحرب وخراب مواقع التراث الثقافي
٢٧ سبتمبر ٢٠٢٤ببنادق كلاشينكوف على أهبة الاستعداد لضغط الزناد وبأصابع تشير إلى علامة "النصر أو الموت" يقف مسلحون من قوات الدعم السريع شبه العسكرية -في مقطع فيديو على فيسبوك- أمام آثار مدينة النقعة القديمة الواقعة في أقصى جنوب مملكة مروي العتيقة -التي كانت ذات يوم جزءاً من إمبراطورية كوش -بحرف الواو- علماً بأن "كاش" -بحرف الألِف- تعني منطقة النوبة باللغة مصرية القديمة.
مدينة النَّقعة تقع في شمال شرق الخرطوم-عاصمة جمهورية السودان- في البراري والسهول بعيداً عن نهر النيل، وربما هذا هو السبب وراء بقاء مدينة النقعة على حالها منذ ذروة ازدهارها قبل حوالي 2000 عام، وقد ظل علماء الآثار الألمان يبحثون فيها منذ عقود إلى أن أصبحت مدينة النقعة مشروع تنقيب تابع لمتحف الشؤون المصرية الواقع بمدينة ميونخ الألمانية، لكن أحوال مدينة النقعة سيئة للغاية"، كما يقول مدير متحف الشؤون المصرية أرنولف شلوتَر.
لا تتناسب سمات وجوه المسلحين شبه العسكريين على الإطلاق مع الوضع اليائس في السودان: فمنذ أبريل / نيسان 2023 تتقاتل القوات المتنافسة من أجل السلطة في بلاد السودان الغنية بالموارد والفقيرة للغاية. ويواجه الرئيس الفعلي عبد الفتاح البرهان -والجيش السوداني الذي يقوده- معارضة من قوات نائبه السابق محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية التي كانت تحت قيادة الرئيس المخلوع عمر البشير حتى الإطاحة به، ويعتقد أن البشير استغل ثروات هذه البلاد الغنية والتي انقسمت إلى شمال وجنوب منذ عام 2011.
يعود تاريخ الصراع الحالي في السودان إلى أكثر من 20 عاماً، وقد أمسى أكثر من عشرة ملايين شخص نازحين حالياً، ويعاني نصف السكان البالغ عددهم 50 مليون نسمة من الجوع، وتتحدث الأمم المتحدة عن "واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم"، ودعا الرئيس الأمريكي جو بايدن مرارا الأطراف المتصارعة إلى التفاوض على إنهاء الحرب الأهلية.
انتهاء حماية المواقع الأثرية
نجت ثلاثة معابد -عمرها آلاف السنين- في النقعة التي كانت ذات يوم مدينة رائعة، ولا يزال هناك خمسون مبنى من المعابد والقصور والمباني الإدارية مختبئة تحت أكوام كبيرة من الآثار، بالإضافة إلى أضرحة تضم مئات المقابر. وحتى مدير المتحف شلوتَر لا يعرف إنْ كان من شأن مشروع التنقيب -التابع لمتحف الشؤون المصرية في ميونخ- الاستمرار أم لا، "فقد هرب معظم عمال التنقيب واقتُحِم مبنى التنقيب وسُرقت إطارات المَركبات، والموقع الأثري لا يستطيع الدفاع عن نفسه بنفسه"، كما يقول.
ومن المرجح أيضاً أن يكون قد تم التخلي عن فكرة بناء متحف للنقوش العديدة والتماثيل والاكتشافات الصغيرة، وهو بناء كان قد رسم مخططه المهندس المعماري البريطاني ديفيد تشيبرفيلد. من جانبه يعبر شلوتر مدير متحف الشؤون المصرية في ميونخ عن قلقه الشديد بشأن الناس في تلك المناطق السودانية قائلاً: "لا نعرف كيف أحوالهم" والمعلومات الموثوقة عنهم ناقصة، لكن ما يبدو واضحاً هو أن إدارة الآثار السودانية -المسؤولة عن رعاية مواقع التراث العالمي- فقدت الكثير من الوثائق نتيجة الحرب، ونُهبت مكاتبها في الخرطوم، فقد كان يجري إنشاء سِجِلّ مركزي حين بدأت الحرب، وها هو "السودان يقصف نفسه بنفسه ويعود إلى حالة من الغموض"، وفق ما يقول مدير المتحف.
" علينا معاودة البدء من الصفر حتى لو عاد السلام على الفور"
تعرض المتحف السوداني الوطني للسرقة ولدمار هائل وتضررت البنية التحتية في أماكن عديدة وأصبحت الطرق والجسور غير صالحة لعبور الناس فيها وقُصف مطار الخرطوم، وفي المدن الكبرى قام مسلحون -بملابس عسكرية- بسرقة وتدمير المتاحف، مثلاً في جنوب دارفور وفي كردفان ومنطقة الجزيرة. وفي الخرطوم -وفق تأكيدات منظمة اليونسكو الثقافية التابعة للأمم المتحدة- نُهب المتحف الوطني السوداني بما فيه من آثار ومجموعات أثرية مهمة وقِطَع أثرية لها قيمة تاريخية ومادية كبيرة، ولذلك تحذر منظمة اليونسكو الجهات الفاعلة في سوق الفن من شراء الأصول الثقافية السودانية.
وتقول الخبيرة الألمانية أنغيليكا لوفاسَر -أستاذة علم الآثار ورئيسة "مركز أبحاث السودان القديم" بجامعة مونستر الألمانية: إن "أحوال مناطق الحرب في السودان مأساوية"، والكثير من معلومات هذه الباحثة حول السودان وآثاره راهنة وجديدة، وقد تلقت أخبارها من "المؤتمر الدولي لدراسات مملكة مروي"، وهو مؤتمر جمع معهدُ الباحثة أنغيليكا لوفاسَر للمشاركة فيه مؤخرا علماءَ الدراسات المصرية من جميع أنحاء العالم، وناقشوا فيه صوراً وتقارير حول الأضرار، وقالت أنغيليكا لوفاسَر إنه وفقا لنتائج المؤتمر فإن الأصول الثقافية للسودان "تتعرض حالياً للتهديد": زِدْ على ذلك احتراق السوق التاريخي المسقوف بالكامل في أم درمان على الضفة الأخرى من نهر النيل المقابلة للخرطوم.
معهد غوته الثقافي الألماني مغلق
وفي الوقت نفسه أصبح معهد غوته الألماني في السودان منذ أشهر كثيرة "يتيماً" بلا روَّاد ولا زوار ولا عاملين، فهو يتوسط منطقة القتال نظراً لقربه من القصر الرئاسي بالخرطوم، وقد أُخرِج الكثير من موظفيه إلى خارج السودان في بداية الأزمة العسكرية. وفي العاصمة المصرية القاهرة -إلى حيث فر العديد من العاملين في المجال الثقافي من السودان- أنشأ معهد غوته هناك ما يشبه "تجمُّعاً" لإقامة فعاليات ثقافية للسودانيين، بحسب ما أعلن مقر معهد غوته الرئيسي في برلين، بناءً على طلب معلومات منه.
كما غيَّر الصراع في السودان عالَم السياحة في السودان، فقد كانت وكالة منظِّم الرحلات السياحية فرانك غرافنشتاين تدير –نيابة عن الحكومة السودانية الرسمية- موقع "زوروا السودان" على الإنترنت وكانت تنظم رحلات في السودان للصحفيين ولمديري السياحة، ليستمتعوا بممارسة رياضة الغوص الشهيرة في البحر الأحمر وزيارة المناظر الطبيعية والثقافية الغنية هناك، ولا يزال هذا الموقع الإلكتروني متاحاً على الإنترنت لكن فرانك غرافنشتاين لم يعد لديه أي اتصالات مع الناس العاملين في السياحة في بلاد السودان التي مزقتها الحرب الأهلية، وأمسى يقول: "أنصح بعدم السفر إلى السودان".
أعده للعربية: علي المخلافي