السرٌ في صمود مدينة كوباني المحاصرة
٢٤ ديسمبر ٢٠١٤على أطراف مدينة كوباني يقف حارس من مقاتلي "وحدات حماية الشعب" الكردية ويراقب تحركات الأعداء رغم الظلام المبكر في فصل الشتاء. "هناك على مرمى حجر تنظيم "الدولة الإسلامية"، يقول ذلك ويؤشر بيديه نحو الجنوب ويضيف: "المسافة بيننا أقل من كيلومتر واحد".
ويخفي الرجل المقاوم سيجارته بين يديه، كي لا يرى نارها العدو المتربص ويتعرض لرصاص قناصته. ويوضح الحارس أن الضربات الجوية للتحالف الدولي ضد "داعش" منحت وحدات الدفاع عن الشعب فرصة للراحة قليلا وفي الوقت الملائم.
ويعترف بأن "ذخائرهم كانت تكفي ليوم أو ليومين فقط عندما بدأت الغارات الجوية للتحالف".
وإلى الحين الذي بدأت فيه طائرات التحالف بالهجوم على مواقع "داعش"، بقي المقاومون في كوباني لوحدهم ودافعوا عن المدينة لمدة 45 يوما. وحتى ذلك الوقت كان الإسلاميون المتشددون متقدمين تقنيا وعددا وعدة على المقاومين داخل المدينة. كما أن تركيا منعت وصول الإمدادات إلى المقاتلين الأكراد في كوباني عبر حدودها. ولهذا لم يعتقد أحد آنذاك أن تواصل المدينة مقاومتها.
" بسالة وشجاعة المقاتلين أوقفت تقدم تنظيم "الدولة الإسلامية"، كما يؤكد أنور مسلم. بعد ذلك بدأت قوات التحالف قصفها الجوي على مواقع التنظيم، ثم عرضت علينا قوات البيشمركة الكردية في شمال العراق دعمها، كل ذلك شكل دعما معنويا قويا لمقاتلي "وحدات الدفاع عن الشعب"، كما يقول رئيس الحكومة المحلية في كوباني أنور مسلم. ويضيف "عمليا ونفسيا يمكن اعتبار أنه تم القضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية".
تفاؤل حذر
وتسود في كوباني وعلى ضوء الانتصارات التي تحققها وحدات الدفاع عن الشعب أجواء تفاؤل حذر. فحتى أواسط شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري كان المقاتلون التابعون لوحدات حماية الشعب يسيطرون على حوالي 70% من المدينة، كما يقول وزير الدفاع المحلي عصمت شيخ حسن.
" الغارات الجوية ضربت أهداف "الدولة الإسلامية" في كوباني وتستهدف أيضا قوات التنظيم المتقدمة"، حسب رأي حسن. وليس مهما حجم القصف الجوي، فبدون تحرك قوات على الأرض لا يتغير شيء". ولكي يتحقق النصر على الإسلاميين المتشددين، تحتاج قوات "وحدات الدفاع عن الشعب" أسلحة ثقيلة، إلى جانب تكثيف الضربات الجوية على طرق إمدادات التنظيم، كما يحذر حسن.
ورغم ذلك يبقى أنور مسلم متفائلا: "سنتمكن من الدفاع عن المدينة" يتنبأ هو بذلك. تنظيم "الدولة الإسلامية" لم يعد قادرا على فرض سيطرته على كوباني فالمعركة ستنتهي لصالح المدافعين عنها. "ولكن يجب علينا أن نصبر". ومن يصمد في كوباني وسط درجات حرارة شتوية، يحتاج إلى الصبر والعزيمة.
ظروف حياتية شاقة للغاية
تجلس لطفية سليما القرفصاء في ظهيرة يوم من أيام كانون الأول/ديسمبر حول نار أوقدتها أمام باب منزلها الواقع في غرب كوباني. لا يوجد لدينا جهاز تدفئة ولا أي مادة لحرقها"، كما تقول لطفية البالغة من العمر 30 عاما وتضيف "علينا الطبخ فوق هذه النار خارج المنزل".
الشابة الكردية هي واحدة من مئات المدنيين الذين يصمدون في كوباني. وآلاف منهم هربوا عبر الحدود إلى تركيا عندما اندلعت المعارك. لكن عائلة لطفية قررت البقاء في كوباني.
" لانريد مغادرة منازلنا"، تقول الشابة الكردية وتضيف "وماذا علينا أن نفعل في بلد آخر؟ يتم معاملتنا في تركيا كالغجر. هذا بلدنا، ولماذا نتركها؟ من الأفضل أن نموت هنا".
ورغم عدم وجود محلات تجارية، إلا أن إدارة المدينة تحت إشراف "حزب اتحاد الشعب الديمقراطي" تقوم بتوزيع المواد الغذائية يوميا بالإضافة على توزيع الملابس والأدوية على السكان. وتنظم إدارة البلدة حتى شؤون نقل النفايات من المنازل. بمسحاة في يد والسلاح في اليد الأخرى ينقل سائق عربة النفايات الأكياس البلاستيكية المليئة بالقمامة إلى عربته الصغيرة.
وإلى جانب قلق لطفية بشأن مواد الحرق لغرض التدفئة والطبخ، يراودها قلق آخر يتعلق بمصير أطفالها الخمسة، كما تقول. أصغر أطفالها عمره 18 شهرا وأكبرهم بلغ 12 عاما. "إنهم يخافون كثيرا، ونحاول تهدئتهم بأن الأمور على ما يرام، ولكن كلما سمعوا دوي انفجار قنبلة ينتابهم الخوف مجددا"، كما تقول. لكن الأطفال يلعبون اليوم مرحين في الحقل المقابل لمنزلهم، حيث يركبون دراجة هوائية صغيرة بالتناوب، ويعودن بين الحين والآخر على النار للتدفئة قليلا. تعلم الأطفال العيش مع دوي القنابل والمدافع الثقيلة. "لقد تعودنا بشكل ما على هذه الظروف، تقول لطفية وتضيف "هذه هي ظروف حياتنا منذ أشهر".
عائلة مقاتلة
وفي الوقت الذي تهتم لطفية بشؤون عائلتها، ينخرط معظم المدنيين الآخرين في القتال. "في السنوات الثلاثة الأخيرة تعلم الناس هنا، بما فيهم الأطفال، القتال"، كما يقول أحمد إسماعيل ويضيف "تعلم كل واحد هنا فنون استخدام السلاح". قبل أربعة أشهر انضم النجار الشاب البالغ من العمر 22 عاما إلى صفوف حركة المقاومة عن المدينة. مهمته تكمن في إيصال الطعام والذخيرة من قاعدته الواقعة في منزل صغير في منطقة السوق القديمة إلى الجبهة ونقل الجرحى من هناك إلى المستشفى.
وفتح المقاومون ثقوبا كبيرة في جدران البيوت كي يحموا أنفسهم عند تنقلهم أثناء المعارك عبر شوارع المدينة. كما نصبوا قعطا كبيرة من القماش على وسط شوارعهم لحماية الناس من رصاص قناصة تنظيم "الدولة الإسلامية". "نقاتل من أجل حريتنا" يقول أحمد ويضيف "نقاتل كي نعود إلى حياتنا الطبيعية".
وبدوره محمد صالح البالغ من العمر 50 عاما، بقي بصحبة زوجته خديجة يوسف البالغة من العمر 40 عاما في المدينة. في البداية فر الزوجان إلى منطقة قريبة من الحدود التركية، إلا انهما عادا أدراجهما.
مدينة صغير بقلب كبير نابض
"عندما وصلنا إلى مكان قريب من الحدود التركية، كانت المنطقة تتعرض إلى قصف مدفعي من قبل تنظيم "الدولة الإسلامية"، فيما بقيت القوات التركية دون حركة أو رد". لهذا قرر الزوجان بكل اعتزاز العودة إلى كوباني، كما يروي محمد، الذي يجلس على الرصيف أمام داره ويطبخ الشاي له ولجيرانه. محمد معاق منذ ولادته ولا يستطيع الحركة دون مساعدة.
لكنه ورغم ذلك طلب من زوجته أن تذهب إلى تركيا لحماية نفسها، لكنها فضلت البقاء معه. إذا مت أنت، فأفضل أن أموت معك، قالت له آنذاك. "حطم تنظيم "الدولة الإسلامية" حياة الكثيرين من الناس" يقول محمد، ويضيف "ظروفنا صعبة، لكننا نتدبر أمرنا"، ويتابع" كوباني مدينة صغيرة ولكن لها قلب كبير نابض". بمرور الأسابيع الأخيرة تولد لدى سكان المدينة نوع من الفخر والاعتزاز وإن كان بلمحة حزينة.
فقط سكان كوباني رفضوا الاستسلام لتنظيم "الدولة الإسلامية"، كما يقول أنور مسلم. ويضيف "سنواصل القتال، هذا ما قاله الناس هنا، والكثيرون تحولوا إلى لاجئين، لكننا نرفض أن نعيش في ظل "الدولة الإسلامية" وإيديولوجيتها". لقد أظهروا، كما يقول رئيس إدارة مدينة كوباني، أنه من الممكن تحقيق النصر على تنظيم "الدولة الإسلامية"، إذا نهض الناس وكافحوا جميعا.