السخرية كسلاح في وجه الأنظمة الاستبدادية
٤ يونيو ٢٠١٣عددهم قليل، لكنهم موجودون. إنهم الفنانون الكوميديون الذين يسخرون من أنظمة بلدانهم. وذلك عبر الكلمة، فيواجهون القمع والسجن وأحيانا الرصاص. وفي العالم العربي بات باسم يوسف متربعا على عرش هذا النوع من الفن، بل وتحول إلى ظاهرة فريدة في طريقة التعاطي مع الواقع السياسي. فيكفي أنه وعبر سخريته تلك، بات يشكل معسكرا معارضا مستقلا، كاشفا عن عجز الطبقة السياسية، ومحولا الأداء الحكومي إلى موضوع استهزاء من قبل الشعب.
وكانت النتيجة، أن استدعي للتحقيق معه بتهمة ازدراء الإسلام، وعدم احترام شخص الرئيس، وذلك إلى جانب تهم أخرى كدعم الشذوذ الجنسي وزرع الفتنة وغيرها.
وبخلاف ما يحدث في مصر، بادر نظام بشار الأسد في سوريا إلى خطوة أكثر همجية، حين أرسل رجاله لتعنيف وتعذيب الرسام الكاريكاتوري علي فرزات وكسر أصابعه. كان ذلك في عام 2011 عقب انطلاق الأحداث السورية. والغرض من ذلك، تلقين الرسام "درسا"، حتى يكون "عبرة" لمن لا يعتبر". أما التهمة التي وجهت إليه، فهي إهانته لشخص الرئيس بشار الأسد. ورغم ما تعرض له فرزات من تنكيل، إلا أنه واصل فور شفاء أصابعه من منفاه بالكويت عمله الفني بغزارة، ولم ينجح النظام الرسمي في سوريا في كسر عزيمته، ولا حتى في كسر ابتسامته، كما يقول علي فرزات.
"زارغنار" وجه ميانمار الساخر
وفي ميانمار(بورما سابقا)، برز اسم الكوميدي الساخر "زارغنار" الذي جعل من السخرية سلاحا وشعارا له أيضا. فواجه أقسى العقوبات من قبل الطغمة العسكرية التي حكمت البلاد ما بين عامي 1962 إلى 2010. وإلى غاية اليوم، يحظى "زارغنار" بشعبية قوية بفضل النكات التي أطلقها سخرية بالطبقة الحاكمة، والتي يتم تداولها إلى غاية اللحظة. واليوم، يتم بتوصية منه إنشاء أكاديمية للفنون والإعلام، بهدف دعم المواهب الفنية الشابة في ميانمار.
"زارغنار" لقب يعني باللغة العربية "الكماشة"، أما اسم الفنان الحقيقي فهو مايونغ تورا. ومن نكاته أن أحد الأمريكيين قال، إن أمريكيا أعرجا نجح في بلوغ قمة جبل إفرست. فرد عليه انكليزي، بأن مواطنا له قطع المحيط الأطلسي سباحة وليس له سوى يد واحدة. غير أن مواطن ميانمار التفت إلى الاثنين قائلا: هذا طبيعي جدا مقابل ما يحدث في بلادي، فالرئيس هناك يحكم منذ 18 عاما من دون دماغ". وبسبب هذه النكتة، واجه "زارغنار" عام 2008 حكما بالسجن لتسعة وخمسين عاما. وهي عقوبة تضاف إلى سلسلة من عقوبات الحبس وعمليات اعتقال وتعذيب مورست في حقه.
فيلم وثائقي عن "زارغنار"
ويعد "زارغنار" اليوم شخصية مشهورة دوليا. وله أصدقاء كثر حول العالم، من بينهم الفنان الكوميدي الألماني ميشائيل ميترماير الذي سمع بخبر اعتقال صديقه، فتوجه إلى ميانمار لمؤازرته. وذلك في إطار رحلة قام بها برفقة المخرج ريكس بلومشتاين للتحضير لفيلم وثائقي حول "زارغنار". وبالفعل، زاره الاثنان في السجن، وذلك قبل أن يتمّ العثور على كاميرات التصوير لديهما ومصادرتها، فطُلب منهما مغادرة البلاد فورا.
ولم يخفي الفنان الألماني مفاجأته من إطلاق سراح "زارغنار"، وهو الذي كان يحسب أن الأخير لن ينعم أبدا بالحرية. جاء ذلك ثمرة لجهود مكثفة قامت بها منظمة العفو الدولية. وفور خروجه عاد "زارغنار" إلى السخرية وإطلاق نكات مستهزئا بالنظام.
الخوف من الكلمة الساخرة
ويبقى السؤال، لماذا تخاف الأنظمة القمعية من الكلمة الساخرة؟ ولماذا يتوجب على هؤلاء الفنانين المعاناة من بطش الأنظمة الديكتاتورية؟. في محاولة منه لتحليل دور السخرية في المجتمع، قام عالم الاجتماع الشهير، انطون زيجدرفيلد، بتأليف كتاب يحمل عنوان "البعد الاجتماعي للكوميديا". وخلص الباحث إلى أن الفنان الكوميدي يقوم "بتوظيف القيم المجتمعية في أعماله. وهو ما يخلق الاحتكاك، ويولد النكتة". وهو ذات التعاطي، حسب زيجدرفيلد، مع قيم الأنظمة القمعية بطبيعتها الجامدة، مشيرا إلى أن السخرية السياسية "لا يمكنها إحداث تغيير سياسي"، لكنها في الوقت ذاته تمارس تأثيرا نفسيا بالغ الأهمية. ولهذا السبب يتم معاقبة الكوميدي بصرامة، لكي لا تقوى شوكة المعارضة".
كلما ازداد القمع، اختفت السخرية
تجدر الإشارة، إلا أن السخرية يمكنها أيضا أن تختفي مع اشتداد القمع. وهذا ما يفسر، حسب عالم الاجتماع زيجدرفيلد، انعدام هذا النوع من الفن في كوريا الشمالية مثلا، حيث النظام أشد بطشا وقمعا. وهذا ما يلاحظ في الصين أيضا، حيث لا مكان هناك للرسوم الكاريكاتورية، إلا على شبكة الانترنت، ومن دون أن تكون مصحوبة بتوقيعات أصحابها، لأن لا أحد يجرأ على الكشف عن هويته، ولا حتى باسم مستعار.
ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن "زارغنار" أثبت شجاعة منقطعة النظير، حين مارس لعقود السخرية في أوج بطش النظام العسكري في ميانمار. وبعد خروجه من السجن، أقام عروضا فنية مشتركة مع صديقه ميترماير حول تناقضات وسخافة النظام العسكري السابق في ميانمار، تلك البلاد التي قطعت اليوم أولى الخطوات في المسار الديمقراطي.
وإذا كان من الصعب على فن السخرية تغيير الواقع السياسي، فيكفي، حسب الفنان الألماني ميترماير، أنها قادرة على كشف النقائص وفتح المجال لمناقشتها.