الدولة والكنيسة في أوروبا – ثلاثة نماذج يجمع بينها أهمية التعاون المشترك
٢٦ سبتمبر ٢٠١١يعود الفصل بين الكنيسة والدولة في ألمانيا، والمتزامن مع محاولات تنظيم العلاقة بينهما، إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفترة ما يُعرف بحرب الثقافات. فالمحاولات التي قامت بها آنذاك منطقتا بلاد الراين وبادن لتحويل مهام البعثات والتعليم الذي كانت تقوم بها الكنيسة الكاثوليكية إلى اختصاص الدولة، اصطدمت بمعارضة مريرة من قِبل الأوساط الدينية والمحافظة. كذلك في بروسيا ذات الأغلبية البروتستانتية، حيث شكلت المعارضة المحافظة عائقا أمام الجهود الرامية إلى فصل الكنيسة عن الدولة، وظهرت واضحة في الخلاف حول تطبيق الزواج المدني وحق الدولة في مراقبة المدارس.
الحد من السلطة الكنسية
بعد تأسيس الامبراطورية الألمانية التي تهيمن عليها بروسيا في عام 1871، سنّ المستشار أوتو فون بسمارك قوانين قاسية وغير مسبوقة تستهدف كسر سيطرة الدين والكنيسة على الدولة والتعليم والعلم. لكن هذه القوانين واجهت مقاومة عنيفة قام بها على وجه الخصوص "حزب المركز" الديني المحافظ.
خارجيا قطعت الإمبراطورية الألمانية علاقاتها الدبلوماسية مع الفاتيكان في عام 1872، ثم أعادتها مرة أخرى بعد عشر سنوات في عام 1882. وبعد مفاوضات مكثفة بين الجانبين تم تخفيف بعض قوانين بسمارك بحلول 1887 مع الاحتفاظ بمبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة.
التعاون على أساس تعاقدي
وأعادت الجمعية الوطنية(البرلمان) في جمهورية فايمار تنظيم العلاقة بين الكنيسة والدولة من جديد في دستور عام 1919. فقد تم إلغاء مبدأ وجود دين للدولة، وأدخل الدستور إطارا تنظيميا واسعا للعلاقة بين الكنيسة والدولة يقوم على أساس الحرية الدينية والحياد العقائدي للدولة وحق تقرير المصير لجميع الطوائف الدينية. وبذلك أصبحت العلاقة بين الدولة والكنيسة أقرب إلى الشراكة.
واستمرت العلاقة بين الدولة والكنيسة وفق هذه المعايير في جمهورية ألمانيا الاتحادية، فالكنائس تشارك بنشاط في الحياة الاجتماعية، وتعرب عن مواقفها من القضايا الراهنة سواء في لجان مجلس الأخلاق أو في الحصة المخصصة لها من ساعات بث محطات الإذاعة والتلفزيون العامة، كما تُسأل الكنيسة عن رأيها الخاص في بعض جلسات الاستماع في لجان البرلمان.
أما الأعياد المسيحية مثل عيد الفصح وعيد الميلاد فهي أيام عطلة على الصعيد الاتحادي بموجب الدستور. إلى ذلك تمنح بعض الولايات أيام عطلة إضافية بمناسبة أعياد أخرى للمذهبين الكاثوليكي والبروتستانتي. التعاون بين الكنيسة والدولة لا يتوقف عند هذا الحد، فمصلحة الضرائب تقوم بجباية ضريبة الكنيسة من ضريبة الدخل، وتتراوح قيمتها ما بين ثمانية إلى تسعة في المائة بناء على الولاية ووفقا لنوع الكنيسة أو الطائفة الدينية التي ينتمي إليها المواطن، وتقوم الكنائس بدفع مصاريف إدارية مقابل هذه الخدمة.
تربويا تبقى مادة الدين مادةً إلزامية في المدارس العامة في جميع الولايات باستثناء برلين وبريمن. وهذا يعني أن التعريف بالدين هو مادة دراسية إلزامية لجميع أعضاء الطوائف الدينية مع اختلافها. ومع ذلك يمكن للوالدين طلب إعفاء طفلهما من هذه الدروس، كذلك يحق للتلميذ بعد سن الرابعة عشرة أن يقرر بنفسه إذا كان يرغب في الاستمرار في دروس الدين أو التوقف عنها.
وفيما يتعلق بالتعليم الديني فإن اختيار طريق التعليم الديني الأكاديمي يتطلب عادة موافقة كنيسته، فالكنيسة تتدخل في اختيار أساتذة الكليات اللاهوتية في الجامعات التابعة للدولة، كما أنها تحدد أيضا محتوى المناهج التعليمية في تلك الجامعات، وذلك على خلاف التعليم المدرسي الذي لا تتدخل فيه الكنيسة.
النموذج الفرنسي
بجوار النموذج الألماني نجد نموذجا آخر يقوم على الفصل الصارم بين الكنيسة والدولة، هذا هو الحال على سبيل المثال في فرنسا، ففرنسا جمهورية علمانية بموجب الدستور. وقام قانون صدر في عام 1905 بتنظيم العلاقة بين الكنيسة والدولة حتى اليوم. وكانت النتيجة المباشرة للفصل الصارم المتضمن في القانون هي نزع ملكية المقرات الدينية، فأصبحت الكاتدرائيات ومباني الكنيسة تابعة للدولة، أما الأبرشيات الصغيرة فأصبحت تابعة للمجالس المحلية.
وبصورة عامة فإن الحكومة الفرنسية تضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية، لكنها لا تمنحها أي دعم مالي. ولدى الطوائف الدينية الأساسية مثل الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية والبروتستانتية واليهود والبوذيين ممثلين عنهم مُعترف بهم من قبل الدولة. ويشارك الممثلون بصفة استشارية في لجنة الأخلاقيات على سبيل المثال، أو مجلس إدارة صناديق الرعاية الاجتماعية لدور العبادة.
دولة الكنيسة
نموذج آخر للعلاقة بين الكنيسة والدولة نجده في المملكة المتحدة، حيث يتولى رئيس الدولة رئاسة الكنيسة في الوقت نفسه. ففي عام 1533 انشق هنري الثامن عن بابا الفاتيكان، ودعا إلى تأسيس الكنيسة الانجليكانية على أن يترأسها هو بنفسه، وهو الأمر الذي لم يتغير منذ ذلك الحين. الملكة اليزابيث الثانية هي على سبيل المثال ملكة البلاد الحالية وهي رأس "كنيسة انجلترا" في الوقت نفسه. وهي الملكة "بفضل نعمة من الله" ويحق لها ترشيح الأساقفة والمطارنة. لكن القرار النهائي اليوم أصبح بيد رئيس الوزراء. وبينما لا يوجد للكنيسة الوطنية أي تأثير على السياسة، فإن اليوم الدراسي يبدأ في جميع أنحاء البلاد بالصلاة، والتعليم الديني المسيحي إلزامي في المدارس. بالإضافة إلى ذلك، يتم الاعتراف رسمياً بالزواج على المذهب الانجليكاني دون حاجة لتسجيله مدنياً.
أهمية التعاون المشترك
وبالرغم من الاختلافات الجوهرية بين النماذج الثلاثة للعلاقة بين الكنيسة والدولة، فإن هناك أيضا أوجه تشابه تجمعهم، من بين هذه الأوجه الإقرار بحرية الدين، وأهمية التعاون الوثيق بين الشريكين. إضافة إلى ذلك هناك ملمح آخر مشترك، وهو أن شرائح متزايدة من السكان في البلاد التي يهيمن عليها تقليديا الدين المسيحي في أوروبا أصبحت تشعر بالاغتراب عن الكنيسة.
بترا نيكليس/ هيثم عبد العظيم
مراجعة: سمر كرم