التكلفة والتداعيات ـ اختراق وشيك في الملف النووي الإيراني؟
٢٦ فبراير ٢٠٢٢تواترت مؤشرات قرب تبلور اتفاق أمريكي إيراني في فيينا بعد مفاوضات ماراثونية غير مباشرة انطلقت منذ عدة أشهر، شاركت فيها القوى الدولية الفاعلة (مجموعة 5+1 التي تضم الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا) بهدف إعادة إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 والذي انسحبت منه الولايات المتحدة في 2018 في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي أعاد فرض عقوبات قاسية على طهران.
عدة تسريبات دبلوماسية أكدت أن المحادثات دخلت مرحلة حاسمة، بل وقد تكون أشرفت على الانتهاء. التسريبات ذهبت إلى حد تحديد بعض تفاصيل الاتفاق متوقعة أن تتضمن تبادل سجناء بين واشنطن وطهران قريبا. أولوية "الجمهورية الإسلامية" كانت ولا تزال المطالبة بإلغاء العقوبات على قطاعي النفط والمصارف والتي تشل اقتصاد البلاد. كما تصر أيضا على رفع القيود المتعلقة بحقوق الإنسان والإرهاب.
الاتفاق السابق كان قائما على فرض قيود على أنشطة تخصيب اليورانيوم مقابل رفع العقوبات الدولية. وقد بذلت ألمانيا وبريطانيا والصين وفرنسا وروسيا جهودا جبارة لسد الفجوة بيت واشنطن وطهران اللتان يظل القرار النهائي في أيديهما، وبالتالي الحسم في مآل المفاوضات.
وبهذا الصدد توقعت صحيفة "فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ" (23 فبراير/ شباط 2022) أن تتضح "نتيجة المحادثات بحلول نهاية الأسبوع المقبل" سواء في اتجاه النجاح أو الفشل. ومن مؤشرات قرب اتفاق وشيك، شروع إيران في نقل مزيد من النفط على السفن، كخطوة استباقية لتسريع قدرتها التصديرية بمجرد الإعلان على الاتفاق ورفع العقوبات. ووفقا لشركة "كيلر" التي ترصد حركة تدفقات النفط على مستوى العالم، فإن قدرة نقل النفط الإيراني بواسطة الناقلات، زادت بحوالي 30 مليون برميل، منذ بداية ديسمبر/ كانون الأول 2021، لتصل إلى 103 مليون برميل. وموضوعيا، من مصلحة الدول الصناعية الكبرى المستهلكة للطاقة عودة النفط الإيراني للأسواق بهدف تهدئة التقلبات في الأسعار التي ارتفعت بأكثر من 20%، هذا العام لتصل إلى 100 دولار للبرميل، وهو وضع فاقمته تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا.
برلين تضغط للحسم بعد أن حانت "ساعة الحقيقة"
عبرت ألمانيا عن موقفها بشأن محادثات فيينا على هامش مؤتمر ميونيخ للأمن على لسانالمستشار أولاف شولتس الذي قال (19 فبراير شباط) "لدينا الآن فرصة للتوصل إلى اتفاق يسمح برفع العقوبات. لكن إذا لم ننجح بسرعة كبيرة، فإن المفاوضات قد تفشل. المسؤولون الإيرانيون لديهم خيار. الآن حانت ساعة الحقيقة". وذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نفس الاتجاه، داعيا طهران لاتخاذ قرار عاجل. وحث في مكالمة هاتفية استمرت ساعة ونصف الساعة، الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على ضرورة التوصل إلى اتفاق. وأعلن بيان لقصر الإليزيه، أن هناك توافق على حل يحترم المصالح الأساسية لجميع الأطراف المعنية ويمكن أن "يُجنب حدوث أزمة نووية خطيرة". وأوضح ماكرون أنه يجب على إيران الآن اغتنام الفرصة واتخاذ القرارات السياسية لتأمين الصفقة لصالح إيران والجميع.
موقع إذاعة "دويتشلاندفونك" الألمانية (14 فبراير) نشر بيانات حول البرنامج النووي استنادا إلى معهد العلوم والأمن الدولي في واشنطن. وذكر أن إيران تملك اليوم 4.000 جهاز طرد مركزي جديد عالي الأداء. كما تمكنت من مراكمة 114 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة %20 و17.7 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة %60 وهو ما كان محظورا عليها في اتفاق 2015. وكتب الموقع معلقا بأن الأمر يتعلق بـ"تطور خطير للغاية لأن الجمهورية الإسلامية يمكنها الحصول على اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة النووية بسرعة كبيرة".
طهران على وعي بأن ساعة الحسم قد وصلت
يعلم صناع القرار في طهران أن المفاوضات النووية وصلت لنقطة اللاعودة، سيتعين فيها اتخاذ القرار الحاسم، ومن مؤشرات ذلك عودة كبير المفاوضين الإيرانيين من فيينا وتوجهه إلى طهران في "زيارة قصيرة للتشاور". ونقلت وكالة بلومبرغ للأنباء عن وزارة الخارجية الإيرانية قولها إن علي باقري غادر فيينا (الأربعاء 23 فبراير شباط)، فيما أكدت إيران أن المحادثات ستتواصل على مستوى الخبراء في العاصمة النمساوية. وكان دبلوماسيون من الاتحاد الأوروبي وروسيا اقترحوا في وقت سابق الانتهاء من المشاورات بحلول شهر فبراير الجاري. وأجمعت كل الأطراف أن المحادثات حققت تقدما كبيرا في اتجاه إحياء اتفاق عام 2015 الذي يقوم على مبدأ رفع العقوبات مقابل فرض قيود على البرنامج النووي الإيراني.
وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان أكد من جهته (23 فبرايرشباط) في مؤتمر صحفي مع نظيره العماني في طهران أن "المحادثات النووية في فيينا وصلت إلى مرحلة دقيقة ومهمة (..) نتساءل عما إذا كان بوسع الجانب الغربي تبني نهج واقعي في التعامل مع النقاط المتبقية في المحادثات". وأكد عبد اللهيان أيضا أنه لا تزال هناك قضايا "مهمة" لم يتمّ حلّها بعد. وقال المسؤول الإيراني "هناك تقدم جيد جدا في المحادثات لكن الكرة الآن في ملعب الطرف الآخر. حان الوقت لأن يتخذ الطرف الآخر قرارات سياسية. مصير بلادنا ليس رهنا لهذا الاتفاق".
موقف إسرائيل وتأثيره على مجرى المفاوضات
تعتبر إسرائيل القوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط وإن كانت لا تقر بذلك رسميا. وهي تنظر بتوجس لاحتمال وصول الجمهورية الإسلامية لـ"العتبة النووية"، بمعنى قدرتها على امتلاك ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة ذرية. وتُعارض الدولة العبرية بمنطق استراتيجي حصول إيران على السلاح النووي وتعتبره تهديدا لأمنها القومي، وهذا ما يفسر معارضتها لمحادثات فيينا، لكنها تعلم أنه ربما لم يعد بإمكانها منع ذلك، غير أنها تظل متمسكة بعدم استبعاد الخيار العسكري إذا دعت مصالحها العليا لذلك.
رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت حذر بدوره من أن أي تفاهم مع إيران قد يكون "أضعف وأقصر" مما كان عليه لدى إبرام الاتفاق الأول عام 2015. واستطرد بينيت موضحا (20 فبراير) "قد نرى اتفاقا قريبا، الاتفاق الجديد الذي يبدو أنه سيتم التوصل إليه (سيكون) أقصر (زمنيا) وأضعف من الاتفاق السابق". وشدد بينيت على أن إسرائيل التي عارضت بشدة االاتفاق الأول "تعمل وتستعد لاتفاق آخر على كل الأصعدة". وترى إسرائيل أن الفوائد التي ستجنيها طهران من رفع العقوبات "ستذهب في نهاية المطاف لتمويل الإرهاب"، مؤكدة أنها لن تلتزم بالاتفاق وستحتفظ بحرية التصرف إذا أحرزت إيران تقدما نحو امتلاك السلاح النووي.
ولا تزال أصوات محافظة في واشنطن تدعو الرئيس جو بايدن لتغيير استراتيجيته تجاه الجمهورية الإسلامية. وبهذا الشأن كتبت صحيفة وول ستريت جورنال (العاشر من فبراير شباط) "لا تزال الولايات المتحدة وأوروبا تتوسل إيران للعودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 والذي لم تعد له فائدة كبيرة. لكن تقريرًا جديدًا يظهر مدى التقدم الذي وصله البرنامج النووي الإيراني، ولماذا يجب على الرئيس جو بايدن إعادة النظر في استراتيجيته (..) يعرف البيت الأبيض مدى خطورة تقدم إيران، كما تعلم إسرائيل ذلك. غير أن الفرق يكمن في أن واشنطن تسمح بالابتزاز النووي الإيراني فيما تبقي إسرائيل على خيار عمل عسكري قائما. يجب أن يتساءل مفاوضو بايدن ما الذي منح طهران الثقة لمواصلة التصعيد. وبدلاً من الأمل في تغيير موقف إيران، يجب على فريق بايدن الاستعداد لكيفية منع الدولة المارقة من الحصول على القنبلة إذا فشلت المفاوضات". ويعتقد خبراء أنّ أسابيع قليلة تفصل إيران عن امتلاك ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع سلاح نووي".
هواجس سعودية بشأن الاتفاق المرتقب
إضافة إلى إسرائيل، هناك قوة إقليمية أخرى تنظر بكثير من التوجس لمآل المحادثات النووية مع طهران، ويتعلق الأمر بالسعودية التي عبرت على لسان وزير الخارجية، الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، عن عدم ثقتها في الاتفاق المرتقب. وفي تصريح لوكالة الأنباء الألمانية (23 فبراير) قال الوزير السعودي"ليس لدينا ثقة في أن "خطة العمل المشتركة الشاملة" بوضعها الحالي يمكنها أن تحول دون تصنيع إيران قنبلة نووية. نتفهم رغبة شركائنا في العودة إلى هذه المفاوضات، لكننا نرى أن ذلك ينبغي أن تكون مجرد بداية، وليس نهاية المطاف". واعتبر المفاوضات الحالية "مجرد خطوة نحو الاتجاه الصحيح، يجب البناء عليها لتحديد مسار البرنامج النووي بدقة، مع مناقشة القضايا الإقليمية". يذكر أن ما يسمى بـ"خطة العمل المشتركة الشاملة" هو المرجعية التي تعتمدها المراحل الأخيرة للمفاوضات بين إيران ومجموعة دول (5 + 1).
الرياض حذرت أيضا من أن امتلاك إيران إمكانيات تصنيع السلاح النووي، سيدفع دولا أخرى لسلك نفس الطريق. موقع "إن.دي أكتويل" اليساري (24 فبراير) ذهب في نفس الاتجاه وكتب معلقا "التحذير (السعودي) مُبرر، لأنه إذا حصلت إيران بالفعل على السلاح الفتاك، فقد لا يمر وقت طويل حتى تبدأ دول أخرى في المنطقة في المطالبة بنفس الشيء، خصوصا بالنسبة للبلدان التي تواجه إيران في المنطقة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لكن الحكومة الإيرانية دأبت على نفي أي نية (لصنع السلاح النووي)، ففي الأسبوع الماضي فقط، أكد المرشد الأعلى آية الله خامنئي نية بلاده استعمال الطاقة النووية لأغراض سلمية محضة".
شروط الجمهورية الإسلامية و"خطوطها الحمراء"
حدد البرلمان الإيراني ستة شروط من أجل عودة طهران للاتفاق وذلك في رسالة (وقعها 205 نائب من أصل 290) وجهت إلى الرئيس إبراهيم رئيسي نشرت (الأحد 20 فبراير شباط). وتتضمن الشروط ضمان عدم انسحاب الأطراف الدولية من الاتفاق، على غرار ما فعله الرئيس دونالد ترامب. وقال النواب في الرسالة "علينا أن نعي الدرس من التجارب السابقة وأن نرسم خطا أحمر فيما يتعلق بالمصلحة الوطنية بعدم الالتزام بأي اتفاق دون الحصول على الضمانات الضرورية أولا". واشترط النواب أيضا ألا تتم العودة إلى الاتفاق إلا إذا تم رفع جميع العقوبات بما في ذلك العقوبات المتعلقة بالإرهاب وتكنولوجيا الصواريخ وحقوق الإنسان. وكذلك ضمان أن طهران ستحصل على أموال من صادراتها وذلك قبل عودة الحكومة للالتزام ببنود الاتفاق النووي. غير أن النواب الإيرانيين يعلمون أيضا أن الشعب الإيراني يتطلع أكثر من أي وقت مضى لرفع العقوبات أمام الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعرفها البلاد. فالشراكات مع الصين وروسيا غير كافية للتعويض عن العقوبات الأمريكية، وهذا لا يكفي لتعويض إيران خسائر في الأسواق العالمية.
موقع "تاغسشاو.دي.إي" التابع للقناة الألمانية الأولى كتب معلقا (التاسع من فبراير) أنه "في السوق التقليدي الكبير بطهران، لا يزال الإيرانيون يأملون في صفقة سريعة تنهي العقوبات" واستشهد الموقع بـ"امرأة (من السوق الكبير) رفضت الكشف عن هويتها تشتكي من أن الإيرانيين يعانون من الناحية المالية. هنا تعيش الغالبية تحت عتبة الفقر. بالإضافة إلى ذلك، تعاني العملة المحلية من تدهور مستمر لقيمتها". ولواشنطن كما حلفائها الأوروبيين أيضا مصلحة في إيجاد مخرج لواحدة من أكبر الأزمات الإستراتيجية في الشرق الأوسط. غير أن التجارب السابقة أظهرت أنه لا يزال من السابق لأوانه التنبؤ بنجاح المفاوضات من عدمها. فماذا لو زادت العلاقة بين الغرب وروسيا تدهورا؟ فروسيا تلعب أيضا دورا مهما في محادثات فيينا ولها قدرة على التأثير في المحادثات في هذا الاتجاه أو ذاك. كما أن هناك عوامل خاصة بالسياسة الداخلية للولايات المتحدة ولإيران قد تكون حاسمة في آخر لحظة.
تفاؤل حذر بشأن التداعيات على سوق النفط
وعدت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الجانب الإيراني بتخفيف العقوبات على إيران في أوائل فبراير/ شباط، متراجعة عن قرارالرئيس السابق دونالد ترامب بفرض عقوبات على الجزء المدني أيضا من برنامج إيران النووي. ومع ذلك، أوضحت الخارجية الأمريكية، أن هذا الإجراء المخفف لا يشير بالضرورة إلى اتفاق وشيك. تسريبات حول مسودة الاتفاق أشارت إلى أن الأخير "لا يقتصر فقط على وقف تخصيب اليورانيوم، ولكن أيضًا للإفراج عن أصول إيرانية بقيمة سبعة مليارات دولار تم تجميدها في البنوك الكورية الجنوبية بسبب العقوبات الأمريكية. الاتفاق سيتضمن أيضا وفق هذه المعلومات إطلاق سراح سجناء غربيين. وحين تُستكمل هذه المرحلة الأولى سيتم بعدها رفع العقوبات، خصوصا الحظر الأمريكي على صادرات النفط الإيرانية.
موقع "فينانسماركتفيلت" الاقتصادي الألماني (23 فبراير) اهتم بالتداعيات المحتملة لأي اتفاق مع إيران على سوق النفط العالمية وكتب معلقا "سيناريو عودة النفط الإيراني للسوق العالمية تصدر عناوين الأخبار خلال الأسابيع الماضية وبالتحديد في حال نجاح المحادثات النووية.
ووفقًا للتقارير الأخيرة (..) فإن زيادة المعروض من النفط سيعني انخفاضا في الأسعار". الاقتصاد الإيراني يعتمد بشكل أساسي على تصدير النفط الخام، ولم تنجح الجمهورية الإسلامية رغم جميع المحاولات في بناء اقتصاد مستقل عن النفط حتى الآن، وبالتالي فإن رفعا سريعا للعقوبات سييجعل الاقتصاد الإيراني يتنفس الصعداء.
وفي سياق متصل، كشفت مصادر قريبة من منظمة أوبك، أن الأخيرة ستعمل على ضم إيران إلى اتفاق الحد من إمدادات النفط إذا تم التوصل إلى تسوية لإحياء اتفاقها النووي مع القوى العالمية، وذلك في محاولة لتجنب التنافس على حصص السوق قد يضر بالأسعار. وهذا مؤشر إضافي على أن فرص التوصل لاتفاق حول النووي الإيراني باتت ترتسم في الأفق وأصبحت مرئية حتى بالنسبة للفاعلين في سوق النفط العالمية.
حسن زنيند