البيروقراطية الألمانية والنموذج العربي

في ظل التطور السريع للتكنولوجيا ووسائل الاتصال، أصبحت أساليب الإدارة الحديثة أكثر فعالية وديناميكية خلال العشر سنوات الأخيرة. إلا انه مازال هناك العديد من التساؤلات حول كفاءة ادارة القطاع العام سواء في الغرب أو الشرق بسبب البيروقراطية المفرطة في بعض الاحيان. ولمناقشة مثل هذه القضايا عقد في برلين من 31 مايو/أيار-1 يونيو/حزيران 2005 "المؤتمر الألماني للادارة العامة" تحت شعار "التحول في الدولة والمجتمع". يهدف المؤتمر إلي تقديم مبادرات متنوعة لتغيير أساليب الإدارة في كثير من ميادين القطاع العام مثل الجيش الفيدرالي والشرطة، بالإضافة إلي قطاع التعليم والجامعات. وقد قامت الوزيرة الفيدرالية للتعليم أيديلجارد بولمان بافتتاح المؤتمر، كما شارك فيه العديد من الشخصيات الألمانية البارزة مثل وزيرة الثقافة لولاية هيسين كارين فولف، ووزير العلوم والثقافة لولاية راينلاند ـ بفالز، ورئيس اتحاد الجامعات الألمانية د. برنارد كيمبن، بالإضافة إلى لفيف كبير من العلماء والسياسيين الألمان.

الحكومة الإلكترونية

طبقا لجدول أعمال المؤتمر تلعب تكنولوجيا المعلومات دورا حيويا هاما في عملية التحول التي يناقشها المجتمعون والتي بدأت بالفعل مبادراتها في عدد من القطاعات. ويعتبر مفهوم الحكومة الإلكترونية من أكثر المفاهيم تداولا عند الحديث عن تطوير الإدارة في القطاعات العامة والحكومية. ظهر مفهوم "الحكومة الإلكترونية" أول مرة على المستوى الدولي في أواخر سنة 1995، حين شرعت هيئة البريد المركزي في ولاية فلوريدا الأمريكية في تطبيقه. لكن مؤتمر نابولي بإيطاليا الذي عقد في شهر مارس من سنة 2001 يعتبر البداية السياسية لهذا المفهوم. والحكومة الالكترونية يمكن تعريفها بأنها استبدال الطريقة التقليدية في الإدارة العامة والاتصال وحفظ المعلومات بين إدارات الحكومة بعضها البعض وبينها وبين المواطنين والمؤسسات لتحقيق إدارة عامة أدق، وأسرع، وأكثر فاعلية، وبتكلفة أقل على الأمد الطويل.

الحكومة الالكترونية الألمانية

لا يقتصر أمر الحكومة الإلكترونية في ألمانيا على مجرد توفير بعض النماذج الحكومية من خلال مواقع الإدارات المختلفة على الإنترنت، مثل بعض تجارب الحكومة الإلكترونية في الدول العربية، بل في بعض مكاتب الضرائب، على سبيل المثال، تم ربط برامج المحاسبة التي يستخدمها المواطنين بالحاسب المركزي لمكتب الضرائب بحيث يستطيع المواطن تقديم إقراراته الضريبة إلكترونيا بالاتصال من جهازه الشخصي إلى جهاز المكتب الضريبي التابع له كما أخبرنا السيد بودو ليرش أحد المتعاملين مع مكتب الضرائب بمدينة شتراوسبيرج. ويعتمد نجاح وفاعلية الحكومة الإلكترونية على تعميق الوعي بمفهوم "الحكومة الإلكترونية" وأهميتها، والفوائد التي يمكن أن تحققها للمواطنين وللمؤسسات وللحكومة، ويتطلب ذلك بناء قواعد بيانات دقيقة وقنوات اتصال مؤمنة بين الإدارات الحكومية بعضها البعض من أجل التنسيق وبين الإدارات الحكومية والشركات والمواطنين من أجل تقديم خدمات آمنة بشكل أسرع وأدق.

البيروقراطية والوقت الضائع

في حديث خاص لموقع دويتشة فيله باللغة العربية مع قالت د. ماريتنا هايتكوتر الخبيرة في سياسات الوقت من ميونخ "أعتقد انه ليس هناك أبحاث علمية مقارنة بين ألمانيا ودول أخرى عن متوسط الوقت الذي يقضيه المواطن في تعامله مع الإدارات الحكومية المختلفة، ولكن بصفة عامة هنا في ألمانيا ومنذ حوالي عشر سنوات بدأت الحكومة في استحداث مراكز خدمة المواطنين، وهي تجمع لعدة إدارات حكومية في مكان واحد، وبمواعيد عمل مرنة ومناسبة على مدار اليوم. يعتبر هذا النموذج ناجح إلى حد كبير، حيث كان المواطن قبل ذلك يقضي أوقات طويلة في التنقل بين مكاتب الإدارات الحكومية المختلفة، وفي بعض الحالات يضطر للتغيب عن العمل لإنهاء مصالحه بسبب تعارض مواعيد الدوام في هذه المكاتب مع مواعيد عمله." وعن رايها حول المشاكل الحالية المسببة للبيروقراطية في ألمانيا قالت الخبيرة: "أعتقد أن كثرة القوانين واللوائح المنظمة للإدارات الحكومية هي المشكلة حالية، وقد يكون من الأفضل العمل على تبسيطها وتقليلها. بالإضافة إلي ذلك هناك نقص في توافر المعلومات اللازمة لتعامل المواطنين مع الحكومة بشكل مبسط ولغة سهلة، لذلك لجأت بعض الجهات إلي توفير موظفين مختصين في مساعدة المواطنين وتوفير المعلومات والنصح لهم بهذا الخصوص." وعند سؤالنا لها عن دور التكنولوجيات الحديثة في الحد من البيروقراطية قالت: "لقد قامت التكنولوجيا الحديثة بتحويل البيروقراطية التقليدية إلى بيروقراطية حديثة، وهناك العديد من المبادرات الناجحة في مجال الحكومة الإلكترونية وإن كانت الحاجة الى اجراء المزيد من التطوير على هذه المبادرات وفاعليتها ما تزال قائمة."

البيروقراطية العربية

هناك كثير من الأمثلة على انتشار البيروقراطية في كثير من الدول العربية. فمثلا يمكن أن يصرح لرجل أعمال ببناء مصنع ما، وبعد اتمام عملية البناء يكتشف عدم امكانية استخراج تصريح لتشغيله، وذلك لأن الجهة المسئولة عن استخراج تصريح البناء تختلف عن جهة التصريح بالتشغيل ولا يوجد تنسيق بينهم. في الأعوام القليلة الماضية كانت هناك مبادرات عربية مختلفة للتخفيف من حدة البيروقراطية واستحداث أساليب جديدة في مجال الإدارة العامة وتعامل المواطنين مع الحكومة. ولعل من ابرز مبادرات استخدام التكنولوجيات الحديثة في بعض الدول العربية مثل مصر والإمارات بناء قواعد البيانات المركزية وإصدار بطاقة شخصية حديثة بها رقم قومي خاص لكل مواطن. و يرتبط الرقم القومي بقواعد بيانات مركزية على مستوى الدولة تحوي العديد من البيانات الهامة عن صاحب الرقم وتسهل كثيرا من إجراءات استخراجه للشهادات والتصاريح المختلفة وتعامله مع الإدارات العامة.

تجربة الحكومات الإلكترونية العربية

في ظل المحاولات المستمرة لتحسين انخفاض الأداء الحكومي في الدول العربية قامت الحكومات في مصر والإمارات والسعودية والكويت ولبنان بتبني مبادرات مختلفة لتطبيق خدمات الحكومة الإلكترونية، وما زالت حكومات العراق واليمن والأردن وسوريا وسلطنة عمان في طور الدراسة والتجريب. ومن الجدير بالذكر هنا الى أن مفهوم الحكومة الالكترونية في بعض تطبيقاته بالدول العربية يقتصر على توفير النماذج والطلبات المختلفة من خلال شبكة الإنترنت، ولكن لابد للمواطن مع ذلك من الذهاب بنفسه إلى مكاتب الإدارات المختلفة لتسليم الطلب أو النموذج، وهذا مفهوم منقوص للحكومة الالكترونية وان كانت بداية لا بأس بها. لذلك، فإن عملية التطوير في مجالات عديدة مسألة ملحة لاستخدام الحكومة الالكترونية ،على سبيل المثال لابد من توافر البنية التحتية المناسبة وتوسيع ودعم استخدام الكومبيوتر بين المواطنين والمؤسسات المختلفة، واستحداث التشريعات القانونية اللازمة مثل قانونية التوقيع الالكتروني وتطوير سبل وبرامج الحماية العربية.

فرص التعاون المشترك بين ألمانيا والدول العربية

مما لاشك فيه أن هناك فرص عديدة للتعاون التجاري والتنموي وتبادل الخبرات بين كل من ألمانيا والدول العربية المختلفة في مجال تطبيق فكرة الحكومة الالكترونية. فالحكومة الألمانية لها خبرة طويلة في مجال السيطرة على البيروقراطية، ذلك بالإضافة إلي تقدمها النسبي في مجال التكنولوجيات الرقمية الحديثة وحاجاتها إلى شركاء من بلاد ولغات متعددة في مجال صناعة وتطوير البرامج المختلفة المستخدمة في مجال الحكومة الإلكترونية.