الانقسام والغموض يُطبقان على تونس في ذكرى الثورة
١٧ ديسمبر ٢٠٢١لا تزال الحواجز الحديدية للشرطة محيطة بالطريق المؤدي الى الباب الجانبي لمقر البرلمان وهو نفس الباب المؤدي أيضا الى متحف باردو الشهير المتاخم له. تشكل الحواجز على جانبي الطريق منطقة عازلة تمتد على مسافة حوالي 150 مترا تحرسه عربات أمنية تقف بدوام كامل. ومع مرور الأشهر يبدو وكأن الناس قد اعتادوا على هذا الإجراء الأمني بما في ذلك من اعتادوا ارتياد المقهى المواجه للبرلمان.
في المقهى المحاط أيضا بالسياج الأمني يجلس جانب من الجمهور يطغى عليه الحماس لمتابعة مباراة مصيرية لمنتخب تونس ضد مصر لحساب مسابقة كأس العرب ولا يبدو أنه آبه بمصير البرلمان من خلفه والمغلق بقرار الرئيس قيس سعيد منذ 25 تموز/يوليو.
بالنسبة لصحافي في مهمة فقد كان يتعين الجلوس بحذر في المقهى مخافة المطالبة بترخيص مسبق والمنع من العمل، لا سيما مع تواجد عناصر من الشرطة من بين الجمهور الحاضر.
وعلى العكس من الصورة الظاهرية التي تخفيها توحد الجمهور خلف منتخب تونس في المسابقة الرياضية المقامة بقطر تحضيرا لكأس العالم في 2022، فإن وجهات النظر لا تبدو كذلك إزاء ما تشهده من تحولات سياسية ومسار متعثر للانتقال الديمقراطي منذ سنوات.
السياسة لم تعد أولوية
يقول مهدي وسلاتي وهو شاب أربعيني يعمل مهندسا وصاحب مؤسسة خاصة، في حديثه مع DW عربية وبنبرة يسودها القلق بينما عيناه شاخصتان إلى الشاشة، إن "الوضع بات غامضا ولم يعد مفهوما". وهو يعترف بأن "الوضع السياسي في البلاد بالنسبة إليه لم يعد أولوية".
يلخص الوسلاتي حالة الانقسام والتخبط التي تعيشها تونس، ففي تقديره أنه لم يكن من الصائب الغاء دور البرلمان بشكل نهائي ومن جهة أخرى فإنه لا يتوقع أن تأتي الإصلاحات السياسية بما في ذلك تغيير القانون الانتخابي، بمشهد سياسي جديد مخالف لما كان عليه الوضع قبل إعلان التدابير الاستثنائية في البلاد من قبل الرئيس.
ولتوضيح فكرته يقول الوسلاتي لـDW عربية "لا توجد مؤسسة دستورية غير مهمة. كل دول العالم تملك برلمانات. ولكن السؤال هو ما إذا كان البرلمان يعمل بشكل جيد أم لا. وهل يستحق الإلغاء أم الإصلاح؟".
ويتابع الشاب في تعليقه "انتخابات أخرى ماذا ستضيف؟ هل سنغير التونسيين؟ الحل هو العمل على التربية والتعليم وتغيير العقليات والتشجيع على خلق الثورة وعلى الصناعة. يجب الدفع بالإصلاحات السياسية بموازاة الإصلاحات الاقتصادية في خطة متكاملة وواضحة العالم. ما يطرحه سعيد بعيد عن هذا".
يمثل الوضع الاستثنائي للبرلمان العنوان الأبرز للانقسام الحاصل في الشارع التونسي اليوم وهو يضاف إلى الكثير من الملفات المتراكمة منذ الثورة عام 2010، مثل البطالة والأزمة الاقتصادية والإصلاحات المتعثرة والنظام السياسي وباقي المؤسسات الدستورية المعلقة مثل المحكمة الدستورية التي تأخر وضعها لسنوات.
يقول المحمود الجلاصي الطالب في المعهد الأعلى للتجارة لـDW عربية بينما كان يتابع المباراة بشغف "كان من المفروض اتخاذ قرار الغلق للبرلمان منذ سنوات. النواب لم يعملوا من أجل مصلحة الشعب، بل مرروا القوانين التي تخدم مصالحهم لا مصالح الشعب والشباب".
ولا يرى الجلاصي مثل الكثير من خريجي الجامعات في تونس أفقا واضحا في البلاد في ظل تعقد الوضع السياسي والاقتصادي، ويضيف في تحليله "معضلة البطالة لن يتم إصلاحها إلا بعد خمسين عاما. الوضع مغلق وحتى من يحصل على فرصة عمل بالنسبة للمتفوقين فإن المرتبات زهيدة. المشكل في النظام السياسي".
ويذهب زميله الطالب إسكندر الاندلسي إلى رأي مخالف في حديثه مع DW عربية "ما يحدث لتونس أساء كثيرا لصورتنا في الخارج. لكن قرار غلق البرلمان طال وكان يفترض أن تعقبه إصلاحات عاجلة تشمل المؤسسات والاقتصاد. لم يحصل هذا بالإضافة إلى أن الدينار يتهاوى".
تونس لا تزال في مرحلة مخاض
بموازاة المواقف المتضاربة للأحزاب، فالبعض منها مؤيد للرئيس سعيد والبعض الآخر ومن بينها الأحزاب الرئيسية في البرلمان متمسكة بإبطال قرارات يوم 25 يوليو، فإن حالة الانقسام تزداد ترسخا في الشارع عبر المسيرات والمسيرات المضادة، ليطال ذكرى الثورة نفسها بعد قرار الرئيس سعيد اعتماد يوم 17 ديسمبر يوم عطلة رسمية بدل يومي 17 ديسمبر و14 يناير، تاريخ سقوط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
بالنسبة للخبير في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر فإن حالة الانقسام تعد افرازا طبيعيا بسبب التجاذبات التي سيطرت على المشهد السياسي في تونس منذ عشر سنوات، لكنه يشير إلى أن هذا الانقسام لم يكن قائما على برامج وأفكار بل كان مدفوعا بالخلاف الأيديولوجي والشكليات ومنطق الإقصاء.
ينظر إلى الانقسام المجتمعي والسياسي الحالي في تونس على أنه لم يكن الوحيد في التاريخ الحديث للدولة التونسية، بدليل الصراع الذي احتدم بين أنصار الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة باني دولة الاستقلال ورفيق دربه السياسي صالح بن يوسف الذي تحول إلى خصم له بسبب الخلافات في تحديد سياسات تونس تجاه المستعمر الفرنسي بعد الاستقلال الذاتي في مرحلة أولى.
ويذكر المؤرخون في تونس ومن بينهم المؤرخ الجامعي خالد عبيد كيف كاد أن يتحول هذا الصراع إلى وسيلة هدم للدولة الحديثة والوليدة بعد الاستقلال في منتصف القرن الماضي وكيف ألقى بظلاله على المجتمع لسنوات طويلة.
ويوضح بن عمر لـDW عربية قائلا "تونس اليوم تحتاج إلى إدارة حوار. نحن لا زلنا في مرحلة تدريب وفي مخاض مستمر مع أنه عرف بعض الانحرافات عقب الثورة بسبب العنف والاغتيالات السياسية".
ويتابع الخبير في حديثه "الأهم أن الخلافات ظلت اجمالا في إطار سلمي ولم تفض الى الانهيار الكامل. ولكن قد نحتاج إلى جيل جديد أكثر انفتاحا وقبولا للحوار".
ويستدل بعض المعلقين في تونس على طول المخاض المستمر منذ الثورة، بأن الثورة الفرنسية الرائدة في التاريخ الحديث احتاجت إلى مدة قرن قبل أن تفضي إلى استقرار المؤسسات والنظام السياسي في فرنسا.
تونس- طارق القيزاني