الانتخابات البرلمانية العراقية 2014: امتحان الوطنية الأصعب
٢٨ أبريل ٢٠١٤الاختبار والتحدي يأتي في ظل ظروف صعبة جدا قد تفوق بصعوبتها تلك التي اجريت فيها انتخابات عام 2005 وعام 2010. فالظروف الأمنية بصورة عامة والحالة الخاصة التي تعيشها مدينة الفلوجة التي خرجت عن سيطرة الحكومتين المركزية والمحلية والظروف المماثلة في بعض أحياء مدينة الرمادي (عاصمة محافظة الانبار التي تتبعها الفلوجة)، والوضع الأمني الهش في المناطق ذات الأغلبية السنية والمختلطة، والخلاف بين حكومتي أقليم كوردستان والحكومة المركزية برئاسة المالكي، والتذمر الكبير الذي أبداه قادة بعض التيارات والكتل السياسية التي كانت متحالفة مع ائتلاف دولة القانون وأوصلت المالكي إلى الولاية الثانية لرئاسة الوزراء، وأبرز هؤلاء هو السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري الذي تمثله كتلة الأحرار في مجلس النواب، والسيد عمار الحكيم الذي يرأس تيار (الحكيم) وتمثله حزب المجلس الأعلى ومنظمة بدر التي انشقت عنه لاحقا لتتحالف مع إتلاف دولة القانون. ويضاف إلى كل هذه التحديات، تحدي الاستياء الشعبي بصورة عامة من تردي الوضع الأمني واستمرار نقص الخدمات والفساد الإداري، والتهديد الذي يواجه وحدة البلاد.
كل هذه انقلبت الى تهديد موجه بالدرجة الأولى ضد التجديد لولاية ثالثة لرئيس الوزراء نوري المالكي، لأن جميع هذه الأطراف تقريبا تعتقد بأن سبب الأزمات هو المالكي نفسه، نتيجة لسعيه الحثيث إلى بناء دكتاتورية شخصية وحزبية. شخصية من خلال التفرد بالسلطة التي بنيت على التوافق أصلا، واستحواذه على المناصب الحساسة. فبالإضافة الى رئاسة الوزراء، فهي يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع ووزير الداخلية. كما بسط هيمنته أو مد نفوذه إلى هيئات يفترض أن تكون مستقلة وبعيدة عن السلطة التنفيذية، مثل مجلس القضاء الأعلى، وهيأة النزاهة والبنك المركزي العراقي، والمفوضية العليا للانتخابات وهيأة الإعلام العراقي. أما من ناحية الديكتاتورية الحزبية، فهي الخشية من استمرار تغلغل أتباع ومؤيدي حزب السلطة في العديد من المناصب واحتكار الوظائف الحكومية، أو توزيعها حسب الولاء له.
وعليه فإن التحدي الانتخابي هو تحدي واختبار الوطنية العراقية بالفعل، فالمالكي وأتباعه (يسوقونه) على أنه مختار العصر (في إشارة إلى المختار الثقفي) الذي رفع شعار الأخذ بثار الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب بعيد مقتله في واقعة كربلاء، وهذا تسويق طائفي بلا شك، ويصور الأمر على أن المالكي (حامي) المذهب، وأن منتقديه ورافضي عودته إلى سدة الحكم هم من مناوئي المذهب، وأن ما يجري في الأنبار هو المد التكفيري المتمثل بالقاعدة وما خرج من عباءتها من جماعات إرهابية.
ويعزز هذا المنحى حادثة قطع مياه نهر الفرات في سدة الفلوجة من قبل (الإرهابيين أو المسلحين) هناك، عن المناطق الوسطى والجنوبية. وإن الإرهاب بات إرهاب الماء وسبل العيش أيضا وليس القتل العشوائي للآمنين فحسب. ولعل هذه الحادثة قد أفادت المالكي كثيرا في حملته الانتخابية. وبالتالي فإنه ليس مجازفة القول أن معظم مؤيدي المالكي في الوقت الحالي هم ممن يحملون الهم الطائفي، بمعنى أنهم مشغولون بالهاجس الطائفي بصورة أو أخرى، مثلما أن هناك العديد من مناوئيه لاشك يبادلونهم نفس الهاجس بالتضاد.
التكتلات وبوصلة الطائفية ما بين انتخابات 2010 و2014:
اكتمل عقد المرشحين إلى انتخابات البرلمان العراقي لعام 2014 عند عدد (107)قوائم انتخابية تتوزع على (36) ائتلافا سياسيا و(71) كيانا سياسيا، وبلغ العدد الكلي للمرشحين 9040 مرشحا، من بينهم 2607 إمرأة مرشحة إلى حصة (كوتا) المقاعد النسوية التي يجب ألا تقل عن 25 بالمائة من العدد الكلي لأعضاء مجلس النواب العراقي. وأن العدد الكلي للناخبين الذين يحق لهم الاشتراك في الانتخابات يبلغ 21 مليونا و592 ألفا و882 شخصاً.ذلك ما اعلنته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات كمحصلة نهائية لاعداد المرشحين.
وبالمقارنة مع انتخابات 2010، فإن المشهد الجديد للخارطة القوائم الانتخابية يمكن تلخيصه بما يلي:
أولا: انشطار بعض الكتل التي كانت تمثل ركائز أساسية في البنية السياسية الطائفية العراقية. فقد انقسم (الائتلاف العراقي الموحد) الذي كان يمثل ائتلاف الشيعة في الانتخابات السابقة إلى: دولة القانون الذي يقوده المالكي، والأحرار الذي يقوده مقتدى الصدر، والمواطن الذي يقوده الحكيم. بالمقابل انشطرت (القائمة العراقية) التي قادها إياد علاوي، وكاد أن يحصد منصب رئاسة الوزراء مع المالكي لولا عملية التكتلات التي حصلت، فأخرجته. انقسمت القائمة التي كان يشار لها على أنها تمثل الطائفة السنية إلى كتلة (العربية) التي يقودها صالح المطلك، و(متحدون) يرأسها أسامة النجيفي، بالإضافة إلى (الوطنية) التي يرأسها إياد علاوي.
إن هذه الانشقاقات في الكتل الطائفية علامة صحية لاشك وبارقة أمل في اختبار الوطنية العراقية المشار إليه.
ثانيا: هناك مؤشرات تدل على نوع من الائتلافات داخل الدورة القادمة بين قوائم سنية وشيعية، يجمعها هدف رئيسي هو إبعاد المالكي عن التصدي لولاية ثالثة. وإن هذا معطى إيجابي في صالح الوطنية. فالائتلاف داخل البرلمان يكمل مشاريع القوائم المشتركة (عابرة الطائفية) على الأقل في هذه المرحلة. ويبعث أملا أن يكون هناك نوع من الانسجام في تشكيلة وعمل الحكومة اللاحقة، نتيجة وجود معارضة برلمانية قوية مفترضة تتمثل بكتلة (ائتلاف دولة القانون).
ثالثا: تشكل ائتلاف وطني (مدني) عابر للطائفية، وهو (التحالف المدني الديموقراطي). نواة هذا التحالف الرئيسية هي الحزب الشيوعي العراقي، وبعض العناصر من الأوساط الثقافية والأكاديمية والناشطين السياسيين، ممن لم يعرف عنهم اشتراكهم بفاعلية في إدارة البلد في المرحلة الماضية. أو ممن عرفوا بانتقادهم الشديد لطريقة إدارة الدولة والصراع بين أقطابها. ومن هذه العناصر السياسي مثال الالوسي وهو عضو برلماني وزعيم حزب الأمة العراقية، والناشط السياسي فائق الشيخ علي. ورغم توقع عدم منافسة هذه الكتلة للكتل الكبيرة، إلا اانه مؤشر جيد على توجه يتجاوز التكتلات الطائفية والاثنية.
رابعا: استمرار غياب الكتل التي تحمل الصبغة القبلية (العشائرية) عن المشهد الانتخابي العراقي، في تأكيد على (وهمية) التأثير القبلي في الصوت الانتخابي إلا بحدود قليلة جدا. قد يكون تصويت بعض الناخبين واختيار بعض المرشحين على أساس قبلي ذلك بسبب غياب البرامج الانتخابية الواضحة والمؤثرة، وغياب المشاريع الوطنية التي تجذب الناخبين بالإضافة إلى تفشي المحسوبين كمظهر من مظاهر الفساد الإداري هو الذي يدفع البعض الى التفكير بشخص يخدم يقضي يستجيب لمطالبهم.
ثوابت التكتلات
يمكن قراءة القوائم والكتل الانتخابية العراقية من زاوية ثانية، وهي الأساس الذي ترتكز عليه كل قائمة وتراهن على حصد الاصوات، بغض النظر عن شعاراتها وبرامجها الانتخابية. فهذه الأسس أما عرقية (الاكراد)، او دينية (المسيحيين)، او مذهبية/ طائفية، او قوائم ترتكز على اشخاص (المالكي مثلا)، او أحزاب (الحزب الشيوعي)، او جهوية (مناطقية (قوائم بأسماء بعض المحافظات)، وهكذا، وأحيانا تجمع عاملين او أكثر مما ذكرنا.
فالأساس الذي تستند وتعول عليه الكتلة الكوردية مثلا، هو القومية الكوردية. ولهذا رغم التغير الملحوظ في خارطة التحالفات بين الكتل والقوائم الانتخابية، الا ان الكورد لازالوا محافظين على وحدتهم، فقد دخلوا باسم (الائتلاف الكوردي الموحد)، وقد ظل الائتلاف الكوردي متماسكا رغم غياب رئيس الجمهورية وزعيم حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني جلال طلباني، وكذا الصراع الداخلي في البيت الكوردي حيث صعود جبهة التغيير (كوران) التي باتت تزاحم الحزبين الرئيسيين في الاقليم. بالمقابل مثلا، يراهن ائتلاف دولة القانون على شخص رئيس الوزراء نوري المالكي، ولهذا تجد حلفاءه من القوائم الصغيرة، مثل (مستقلون) التي يراسها وزير النفط (حسين الشهرستاني)، ومنظمة بدر التي يتزعمها وزير النقل (هادي العامري). فالقوائم الصغيرة، إما قوائم ظل أو هي اصلا قوائم متفرعة من ائتلاف دولة القانون وحزب الدعوة، لغرض الاستفادة من قانون الانتخابات (سانت ليغو) المعدل. ومثله تجد أن القائمة الوطنية ترتكز على اسم زعيمها اياد علاوي بعد ان انفرط عقدها وتفرق الحلفاء (الكبار) مثل طارق الهاشمي، وصالح المطلق، واسامة النجيفي. كما ان علاوي خسر العديد من اعضاء قائمته في المحافظات الجنوبية وبغداد نتيجة انهيار حلفه وحادثة طارق الهاشمي، ليتم النظر بالمحصلة إلى الموقف من قائمة علاوي على اساس (موقف وطني) حيث حدثت انسحابات وانشقاقات من قبل العديد من اعضاء الكتلة، وشكل بعضهم قائمة (العراقية البيضاء) في مجلس النواب كأول كتلة تنشق عن القائمة العراقية.
ومثال اخر على قوائم (الأشخاص)، قائمة الاصلاح لزعيمها ابراهيم الجعفري الذي انشق عن حزب الدعوة الذي كان يقوده عقب ترشيح المالكي بديلا عنه في عام 2005 ليترأس الوزارة العراقية الاولى التي جاءت بانتخابات في العهد الجديد بعد الاحتلال. ومن القوائم التي ترتكز على تيار ديني-مذهبي وتاريخ عائلة دينية، هي كتلة الأحرار التي تمثل التيار الصدري، وهي كتلة قوية ومتوقع أن تحصد اصواتا منافسة رغم اعلان زعيم التيار مقتدى الصدر انسحابه من دعمها ووقوفه (على مقربة من الجميع) كما ادعى. هذه القائمة تراهن على دعم ابناء تيار الصدر، والنماذج الناجحة في العمل الاداري التي طرحها بعض رجالات التيار والمرشحين ضمن الكتلة خاصة (علي دواي) محافظ ميسان الذي يعتبر انموذجا للشخصية السياسية-الادارية (الشعبوية). لذا لا نستغرب استغلال نجاحاته في طرح اسمه مرشح مستقبلي لرئاسة الوزراء من قبل كتلة الاحرار. أما كتلة المواطن فلا تختلف كثيرا عن كتلة الاحرار في تصنيف ارتكازها على تيار ديني- مذهبي، وتاريخ عائلة، رغم انها ضمت بعض الحلفاء مثل رئيس المؤتمر الوطني (احمد الجلبي).
اما الكتل الحزبية، فمثالها حزب الفضيلة الذي شكل كتلة منفردة (ائتلاف الفضيلة والنخب المستقلة)، الذي ارتفع رصيده في انتخابات مجالس المحافظات في بغداد والمحافظات الجنوبية. ومثال اخر هو الحزب الشيوعي العراقي الذي يقود (التحالف المدني الديموقراطي) مع أشخاص وأحزاب صغيرة.
احتمالات ومآلات:
ان معطيات انتخابات المجالس المحلية التي أجريت العام الماضي (2013)، قد عكست انخفاض أرصدة الفاعلين الرئيسيين الذين قادوا العملية السياسية في البلد وخاصة ائتلاف دولة القانون. فقد تقلص عدد ممثليه في مختلف المحافظات التي هيمن عليها في الدورة السابقة. ولهذا يتوقع ان تكون الانتخابات البرلمانية خطوة مكملة لتلك بمعاقبة المالكي وكتلته على سوء الاداء في مجمل ما هي مسؤولة منه. وان ما يدفع الى تحقيق هذا التوقع هو، عدم رضى المرجعية الدينية في مدينة النجف باعتبارها جماعة ضغط كبيرة تلقى اعتبارا لدى السياسي والناخب على حد سواء. وان سخطها الذي ابدته مرارا وتكرار من خلال خطب الجمعة او البيانات او الرد على استفتاءات بعض اتباعها. وهذا سينعكس بالتاكيد على قرار الناخب في منح صوته، رغم توقعنا بأن يحصد المالكي كشخص عدد كبير من الاصوات في بغداد، لكن ما نقصده بصورة عامة، هو صعوبة ان يحقق المالكي اغلبية برلمانية تؤهله لتشكيل حكومة في الدورة القادمة. كما ان فرصته بتحقيق ائتلاف مع كتل مؤثرة داخل البرلمان حتى من الشيعة مثل الاحرار والمواطن يبدو اشبه بالمستحيل الان بالنظر الى التقاطعات التي ظهرت بينه وبينهم من جهة، والتفاهمات التي تجري مسبقا بين مناوئيه لإقصائه.
قد يتصور البعض ان ايران مثلا او اميركا قد توفر دعما او تأهيلا للمالكي، لكننا لا نظن ذلك لان ايران لا يمكنها ان تتقاطع مع تيار شعبي كبير مثل تيار الصدر، او حليف مثل تيار الحكيم، بالاضافة الى عدم رضى المرجعية الدينية في النجف عنه. ومن المحتمل انها قد تلقت رسائل واضحة من هؤلاء انهم لا يرغبون بعودة المالكي. اما الولايات المتحدة الامريكية، فلا يهمها من يأتي لانها تعلم ان ادارة البلد تقوم على التوافقات، والحاجة الى الدعم الامريكي ستبقى قائمة طالما ان هناك تهديدات ارهابية مستمرة وانقسامات في الداخل ووضع مضطرب في المحيط الاقليمي.
غياب استطلاعات الرأي المستقلة
لا توجد استطلاعات رأي علمية دقيقة، تستقري توجهات الناخب لدينا، ولكن قراءتنا تحتمل فوز الكتل الرئيسية التقليدية (الائتلاف الكوردي، الاحرار والمواطن ودولة القانون)، بحصص متقاربة مع تفوق نسبي للائتلاف الكوردي. اما القوائم التي تمثل الكتل السنية (متحدون، والعربية، تضاف لهما الوطنية)، فمتوقع حصولها على عدد اقل من المقاعد نتيجة تشرذمها من جانب، والاوضاع الامنية التي تعيق مشاركة الناخبين في المناطق المضطربة أمنيا. والاحتمال الأرجح ان ائتلاف الاحرار والمواطن والاكراد مع بعض الكتل السنية، سيكفل تشكيل حكومة دون المالكي في الدورة القادمة. اما احتمال المالكي في تشكيل الحكومة القادمة، فهو يتعلق بدرجة كبيرة بتفاهمه مع الائتلاف الكوردي من خلال اعطائه تنازلات لهم تتعلق بمطالبهم الرئيسية التي تخص استثمار النفط والميزانية والنفوذ في المناطق المتنازع عليها.
ان فشل المشاريع الطائفية في هذه الانتخابات، يعني الى حد كبير نهايتها، ونجاح المشروع الوطني، رغم الجرح الكبير الذي خلفته العمليات الإرهابية والعبث السياسي المبني على أطروحات طائفية ومناطقية واثنيه. كما ان فشل العديد من رجالات (الرعيل الاول) في الفوز في هذه الانتخابات يعني نهاية مسيرتهم السياسية كما يتوقع. فعلى الأرجح سينسحب احمد الجلبي وينزوي اياد علاوي، وربما إبراهيم الجعفري مثلما اختفى عدنان الدليمي وموفق الربيعي وغيرهم من المشهد السياسي بعد الانتخابات الماضية.
د.حميد الهاشمي باحث في علم الاجتماع بالمركز الوطني للبحث الاجتماعي (NatCen: Social Research) بلندن ، وأستاذ علم الاجتماع بالجامعة العالمية بلندن