الإعلام في تونس يستنشق الياسمين بعد رحيل بن علي
٢١ يناير ٢٠١١لا يكاد الصحافيون التونسيون يصدقون أن الإعلام في بلادهم تحرر بشكل كامل بل "خيالي"، منذ هروب الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. ويبدو أن عددا من الإعلاميين في تونس يشعرون وكأنهم في نهر هادر يجرفهم دون أن يكونوا هم من أطلقوا موجه. فقد عاشت البلاد طيلة 23 عاما في ظل نظام بوليسي يحكم قبضته ورقابته على الإعلام، وأدى عشرات الصحافيين ثمن جرأتهم ألوانا من الاضطهاد والاعتقال والمصادرة.
وفي استطلاع أجرته دويشته فيله مع عدد من صالحافيين والعاملين في قطاع الإعلام، اعتبروا أن ما يحدث هو بمثابة "مصالحة بين الصحافة المحلية والشعب" ودعا عدد منهم إلى ضرورة اتخاذ تدبير لتحصين حرية الصحافة وعدم تعريضها إلى التراجع أو الانتكاسة، وهم يرون أنه يتعين إحداث قطيعة تامة مع عهد الرقابة الشاملة التي كانت مفروضة على الإعلام.
فقد صنفت منظّمة "مراسلون بلا حدود" في تقاريرها السنوية الرئيس المخلوع ضمن القائمة السوداء لرؤساء الدول "أعداء" حريّة التّعبير، وكانت آخر صيحاته أن أعلن عشيّة الإطاحة به في خطاب رسمي كان الأخير له قبل الإطاحة به:"قرّرت الحريّة الكاملة للإعلام بكل وسائله وعدم غلق مواقع الانترنت ورفض أي شكل من أشكال الرّقابة عليها مع الحرص على احترام أخلاقياتنا ومبادئ المهنة الإعلاميّة".
ومن جهته، محمد الغنوشي الوزير الأول في حكومة الوحدة الوطنية التي تولّت تسيير شؤون البلاد مؤقتا بعد هروب بن علي إلى السعودية أعلن "التحرير الكامل" للإعلام والصحافة وإلغاء وزارة الاتصال التي أحدثها بن علي سنة 2005 بهدف إحكام قبضة الدولة على وسائل الإعلام والصحافيين.
انقلاب في التلفزيون الرسمي
أولى المشاهد المثيرة في الحالة الإعلامية الجديدة في تونس، الانقلاب الذي حدث في الإعلام الرّسمي (وخاصة الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء) رأسا على عقب بعد سقوط بن علي الذي حوّل الإعلام الرسمي منذ 23 عاما إلى أداة دعاية لنظامه وتمجيد نفسه وزوجته ليلى الطرابلسي والمقربين من دائرة الحكم ما جعل الناس تقاطعه وتسخر منه طوال سنوات حكم الرئيس المخلوع.
القناة التّلفزيونية الأولى التي كان اسمها "تونس 7"، ورقم سبعة كان أكثر الأرقام استعمالا في عهد بن علي ويرمز إلى تاريخ توليه الحكم في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987، غيّرت القناة الرسمية اسمها لتصبح "التلفزة التونسية الوطنية" وغيرت معها توجهها الإعلامي بالكامل.
صحفيو القناة تمرّدوا على المسيرين الذين عٌيّنوا في عهد بن علي وكان دورهم الرئيسي التعتيم وممارسة الرقابة، فأصبحت القناة تبثّ أولا بأول كل ما يجري في البلد وفي مقدمتها مظاهرات مناهضة للحزب الحاكم ولرموز حكم بن علي، وتنقل جميع الآراء بل إنها شرّعت أبوابها مفتوحة أمام ألدّ خصوم ومعارضي الرئيس التونسي المخلوع مثل المرشحين السابقين للرئاسة منصف المرزوقي وأحمد نجيب الشابي.
خالد نجاح الصحافي بالتلفزيون التونسي والذي تم تجميده منذ 17 عاما بسبب رفضه لمضمون البرامج التي يبثها التلفزيون أطل يوم الخميس(20 يناير /كانون الثاني) من جديد على التونسيين من شاشة التلفزة التونسية وقدم برنامجا حول الإعلام التونسي في عهد بن علي وبعده.
المشاركون في البرنامج فتحوا النار على عبد الوهاب عبد الله مهندس المشهد الإعلامي في عهد الرئيس السابق وقالوا إنه المسؤول الأول عن تحطيم الإعلام التونسي وتركيعه منذ سنة 1990.
أما "وكالة تونس إفريقيا للأنباء" التي كانت في عهد بن علي بمثابة حنفيّة للغة الخشبية وبوق دعاية لنظام بن علي ورموزه، فقد تحوّلت إلى مصدر شبه رئيسي للمعلومات التي ينقلها مراسلو وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الدولية بعد أن أصبحت المادة التي تبثها تتوفر على المعايير العالمية للمهنية والحرفية، كما يقول عدد من مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية في تونس.
الإعلام الخاص يستنشق الحرية
وبفضل ثورة الياسمين انتفض الإعلام الخاص:اذاعات وتلفزيون وصحف ورقية والكترونية، على ماضيه البائس واستنشق أخيرا هواء الحرية وأصبح ينقل كل ما يحدث في البلد متخلّصا من القائمة الطويلة للمحظورات والخطوط الحمراء التي كبلته في عهد بن علي.
نفس الوضع ينطبق على وسائل إعلام خاصة مملوكة لمقربين من بن علي مثل إذاعة "موزاييك إف إم" التي أسسها بلحسن الطرابلسي شقيق زوجة الرئيس المخلوع و"شمس إف إم" المملوكة لسيرين بن علي (ابنة الرئيس بن علي) وجريدة "الصّباح"العريقة التي أصبحت منذ سنوات قليلة في ملكية صخر الماطري صهر بن علي (زوج ابنته).
رفع الحظر على شبكة الانترنت
رفعت السلطات منط ليلة 13 يناير 2011 الحظر على كل المواقع الالكترونية المحجوبة في عهد بن علي وخاصة تلك التي تبث من خارج البلاد مثل موقع "تونس نيوز" الذي يعتبره مراقبون أبرز منبر لأصوات معارضي ومنتقدي الرّئيس المخلوع، والموقع الرّسمي لـ"حركة النهضة" الإسلامية المحظورة التي كانت السلطات تتهمها بمحاولة قلب نظام الحكم بالقوّة مطلع التسعينات.
كما رفعت السّلطات الحجب عن مواقع اجتماعية شهيرة مثل موقع "ديليموشن" و"يوتيوب" حجبتها السلطات لبثها مقاطع فيديو ساخرة أو شديدة الانتقاد للرئيس بن علي وعائلته وخصوصا زوجته ليلى الطرابلسي وعائلتها، وعن الموقع الالكتروني لقناة الجزيرة الفضائية القطريّة التي وصفها مسؤولون تونسيون خلال الأيام الأخيرة من حكم بن علي بـ"المعادية" بسبب تغطيتها "المغرضة" للاحتجاجات الاجتماعية.
وقد احتفل مستعملو شبكة "فيسبوك" الاجتماعية والذي يبلغ عددهم نحو مليوني شخص في تونس، برفع الحظر عن الانترنت و"ترحّموا" على روح "عمّار 404" وهي العبارة التي يرمز بها مستعملو الانترنت في تونس إلى جهاز الرقابة الحكومي على شبكة الانترنت.
مصالحة بين الشعب والصحافة المحلية
أظهر استطلاع لآراء عدد من المواطنين أجراه التلفزيون الرسمي أن التونسيين تصالحوا مع وسائل إعلامهم وخاصة التلفزيون، وحذّر مواطنون خلال برنامج بثه التلفزيون ليلة أمس الخميس الصحافيين من العودة إلى سياسة "المقصّ" (التعتيم). فتحي صاحب كشك لبيع الجرائد والمجلات في منطقة المنار قال لدويتشه فيله إن مبيعات الصحف لديه حققت رقما قياسيا يوم الخميس وأن الناس أصبحوا يقبلون على شراء الصحف لمتابعة ما يجري في البلاد بعد صارت"تكتب كل شيء".
صحافيون في عدة جرائد طالبوا بمجالس تحرير منتخبة تضمن استمرار الحرية والعمل الصحفي المهني والمستقل والنزيه والبعيد عن كل التجاذبات والحسابات السياسية. خالد الحداد الصحافي بجريدة الشروق قال لدويتشه فيله "الإعلام كان مقيدا ومضغوطا عليه عبر آليات متعددة تصل حد التهديد مما افقده المصداقية ومنعه من خدمة الشعب".
ولاحظ الحداد ن "حرية الإعلام هي أكبر مكسب تحققه ثورة الياسمين" مشددا على ضرورة أن يبقى"الإعلام الحارس الحقيقي للثورة من خلال كشف أي انحراف عن تجسيد تطلعات الجماهير".
وجوه "لامعة" في العهدين!
لكن الصفحة الجديدة التي يشهدها الإعلام في تونس لا تبدو ناصعة البياض، وقد حذر عدد من الإعلاميين من مخاطر ما وصفه ب"النفاق" وتقلب في وجوه عدد من الإعلاميين بين العهدين.
الصحافي يوسف الوسلاتي حذّر مساء الخميس في مداخلة عبر التلفزيون الرسمي ممن أسماهم "أشخاص كانوا يأتمرون بأوامر المستشار الاعلامي للرئيس السابق، عبد الوهاب عبد الله" ويطبقون سياسته في عديد المؤسسات الإعلامية وتحوّلوا اليوم إلى دعاة لحرية التعبير والصحافة.
وقال الوسلاتي إن هؤلاء "يريدون أن ينجحوا في العهدين" عهد بن علي وما بعده. ولاحظ مراقبون أن وسائل إعلام خاصة مثل جريدة "الحدث" الأسبوعية التي يعتبرون أنها كانت في عهد بن علي متخصصة في ثلب خصوم بن علي والدفاع عن خياراته غيرت خطها التحريري بالكامل لتهاجم الحزب الحاكم ورموز الفساد في عهد بن علي. مشيرا في هذا السياق إلى بوبكر الصغير مالك مجلّة "الملاحظ" التي كانت إحدى أبواق الدعاية لبن علي وزوجته، غيّر في تصريحات أدلى بها لقناة العربية الفضائية بعد سقوط بن علي خطابه بالكامل إلى حد مهاجمته لبن علي واتهامه بمغالطة الشعب وخداعه طوال سنوات.
ومن جهته بشير الصغاري صحفي بالإذاعة التونسية دعا خلال مقابلة مع دويتشه فيله إلى "كنس كل رموز العهد البائد من الصحافيين المتملقين والمنافقين وإبعادهم عن الحياة الإعلامية نهائيا لأن الحفاظ على الحرية التي جلبتها دماء شهداء الثورة يستوجب أصواتا وأقلاما جديدة صادقة ومخلصة ولا تقلب المعطف (لا تغير مواقفها) بسرعة مع كل ريح معاكسة".
صلاح الدين الجورشي الكاتب الصحافي ونائب رئيس الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، دعا في مقابلة تلفزيوينة إلى تفادي الانفعالات والعمل من أجل تأسيس قواعد ديمقراطية وشفافة في المستقبل في الحياة السياسية والإعلامية، بعيدا عن منطق "التصفية" و"الانتقام" الذي لن يجر البلاد سوى إلى مواجهات مفتوحة بين الفئات المختلفة من المجتمع.
ويرى إعلاميون في تونس أن طفرة الحرية التي يشهدها الإعلام المحلي تحمل معها تحديات جديدة ومن أهمها قواعد وأخلاقيات ممارسة حرية الصحافة، ويعتقدون بأن إعادة تنظيم قطاع الإعلام من خلال وضع ميثاق لحرية الصحافة وإحياء دور نقابة الصحافيين وإحداث مجلس أعلى مستقل للإعلام من شأنه صيانة مكتسبات الحرية الإعلامية وتجنبيها الانزلاقات أو الانتكاسات.
منير السويسي - تونس
مراجعة. منصف السليمي