الإعلام التونسي.. بين الأمن القومي وحرية التعبير
٢٥ يوليو ٢٠١٤انتقلت حكومة مهدي جمعة التي توّلت السلطة بداية 2014، بسرعة قصوى لتطبيق سياستها في "مكافحة الإرهاب"، منذ مقتل 15 جنديا (يوم 16 يوليو 2014) على يد مسلحين متطرفين غرب تونس على الحدود مع الجزائر، في حادثة كانت الأسوأ في تاريخ الجيش التونسي منذ تأسيسه سنة 1956.
فقد أعلنت الحكومة يوم (19 تموز/ يوليو 2014) وضمن ما اعتبره مراقبون "إستراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب" في تونس عن جملة من القرارات الصارمة من بينها "الغلق الفوري للإذاعات والتلفزيونات غير المرخص لها، والتي تحوّلت منابرها الإعلامية إلى فضاءات للتكفير والدعوة إلى الجهاد" ضد عناصر الجيش والشرطة.
بدأت الحكومة بغلق إذاعة "النور" وتلفزيون "الإنسان" غير المرخّصين والمقرّبين من التيارات الأصولية، واللذين يملكهما، بحسب منظمة مراسلون بلا حدود، شخص واحد وتبثّان من ولاية المهدية (وسط شرق). وشملت الإجراءات الحكومية الردعية شبكة التواصل الاجتماعي وخاصة الفيسبوك، إذ أعطت الحكومة "التعليمات" لوزير تكنولوجيات الاتصال حتى "يتكفّل بالإجراءات اللازمة للتصدي لصفحات التواصل الاجتماعي المنادية بالتحريض على العنف والإرهاب والتكفير".
وفي خطوة فجّرت انتقادات كبيرة، أعلنت الحكومة أن "المؤسستيْن الأمنية والعسكرية خطّان أحمران" وهددت بأن "أي شخص أو مجموعة أو حزب أو مؤسسة تقدح فيهما أو تنال من شرفيْهما، يعرّض نفسه للمتابعة القضائية العدلية والعسكرية".
وتزامنت قرارات الحكومة مع إعلان رئاسة الجمهورية (يوم 18 تموز/ يوليو 2014) بأنها "ستقوم برفع قضايا قانونية ضد كل التصريحات (الإعلامية) المسيئة للأمن القومي". وقوبلت الإجراءات التي أعلنتها السلطات بردود فعل متباينة تراوحت في مجملها بين الترحيب والتنديد.
قرار الغلق "دستوري تماما"
وصف مسؤول بجهاز مكافحة الإرهاب التونسي قرار الحكومة غلق الإذاعات والتلفزيونات المحرضة على العنف بأنه "دستوري تماما". وقال المسؤول الذي طلب عدم نشره اسمه لـ DW عربية إن الفصل السادس من الدستور التونسي الجديد الذي تمّ إقراره في يناير 2014 ينصّ على أن الدولة "تلتزم بمنع دعوات التكفير والتحريض على الكراهية والعنف، وبالتصدي لها (الدعوات)" وأن "هذا ينطبق على الإذاعات والتلفزيونات التكفيرية والتحريضية" حسب تعبيره.
وأضاف أن "المتطرفين في تونس أصبح لهم منابر إعلامية بعضها يقوم بالدفاع عن الإرهابيين أو تبييضهم، والبعض الآخر يحرّض على قتل الطواغيت" وهي التسمية التي يطلقها متطرفون على قوات الجيش والشرطة في تونس. وأفاد "في 2013 تعمّد تلفزيون ذو توّجه إسلامي، تشويه حادثة استشهاد اثنين من عناصر الحرس الوطني (الدرك) على يد إرهابيين في منطقة قبلاط (شمال شرق)، إذ زعم أنهما قُتِلا خلال بحثهما عن كنز وليس على يد إرهابيين، وهذا يسمّى تبييضا للإرهاب".
ولفت إلى أن عدة إذاعات وتلفزيونات غير مرخص لها في تونس "لا يمكن اعتبارها مؤسسات صحفية إذ لا تشغّل ولو صحافيا واحدا بل شيوخا مأجورين مرتبطين ماليا بدول خليجية تريد تغيير نمط المجتمع التونسي ونشر الفكر الوهّابي المتطرّف للارتداد بالبلد إلى عصور الانحطاط والتخلّف".
الحكومة تسطو على صلاحيات هيئة دستورية
بحسب القانون التونسي، يتعيّن أن تحصل الحكومة، قبل غلق إذاعات أو تلفزيونات، على موافقة "الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي البصري" (الهايكا) وهي هيئة دستورية تأسست في 2013 لتنظيم قطاع الإعلام السمعي والبصري في تونس.
ورغم أن الحكومة أعلنت أنها حصلت على موافقة "الهايكا" قبل غلق إذاعة "النور" وتلفزيون "الإنسان" إلا أن الهيئة نفت ذلك جملة وتفصيلا.
الصحافي زياد دبّار عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحافيين في تونس قال لـ DW عربية إن النقابة "ضد القرارات الأحادية الجانب وضد تجاوز السلطة التنفيذية لصلاحيات الهيئات دستورية" في إشارة إلى الهايكا. وأضاف "نخشى أن يُصبح تجاوز السلطة التنفيذية للمؤسسات الدستورية تقليدا وأن يتكرر مع حكومات أخرى بذريعة الأمن القومي ومكافحة الإرهاب".
منظمة "مراسلون بلا حدود" المدافعة عن حرية الصحافة اعتبرت (يوم 23 تموز/ يوليو 2014) أن قرار غلق إذاعة النور وتلفزيون الإنسان "يشكل سابقة خطيرة بالنسبة لحرية الإعلام في تونس". وقالت المنظمة إن الهايكا "هي الجهة الوحيدة التي يحق لها قانوناً طلب إغلاق مؤسسة إعلامية" ودعت الحكومة إلى "احترام صلاحيات الهيئة"، قائلة إن "مكافحة الإرهاب لا تتيح للسلطة الحالية أن تحل محل الهيئة الدستورية المعنية بتنظيم هذا القطاع".
وانتقد زياد دبّار إعلان الحكومة أن الجيش والشرطة "خطّان أحمران" وتلويحها "بالتتبع القضائي العدلي والعسكري" لمن ينتقدهما، وأيضا تهديد رئاسة الجمهورية "برفع قضايا قانونية ضد كل التصريحات (الإعلامية) المسيئة للأمن القومي".
وقال إن "الحرب على الإرهاب لا يجب أن تكون مدخلا للتضييق من جديد على حرية الصحافة والتعبير أو إلى وضع مقدّسات ومحرّمات جديدة".
مفدي المسدي الناطق الرسمي باسم رئاسة الحكومة أعلن إن الصحافيين ليسوا المقصودين باعتبار أن الجيش والشرطة "خطان أحمران" بل الأشخاص الذين يتمّ تقديمهم في وسائل إعلام بصفة "خبراء عسكريين وأمنيين" دون أن يكونوا فعلا كذلك داعيا وسائل الإعلام إلى التحقق من صفة "الخبراء" قبل دعوتهم إلى المنابر.
"لا مجال للعودة إلى الخلف"
زياد دبّار عضو المكتب التنفيذي لنقابة الصحافيين قال إن "حرية الصحافة والتعبير هي المكسب الرئيسي" للثورة التي أطاحت مطلع 2011 بالرئيس الدكتاتوري زين العابدين بن علي وأنه "لا مجال للعودة إلى الخلف تحت أيّ مسمى سواء كان مكافحة الإرهاب أو غيره".
ولفت إلى أن الصحافيين في تونس "يقظون جدا، وسيقفون ضد أي محاولة تستهدف الفتك بحريتهم التي اكتسبوها بدماء وتضحيات الشعب". ولاحظ أن وجود صحافة حرّة ومهنّية في تونس هو أفضل رافد لمكافحة الإرهاب لأن المهنيّة تتعارض بطبيعتها مع الخطابات المحرّضة على العنف والكراهية.