الإرهاب والغلاء يهددان نمط عيش التونسيين
٢٣ نوفمبر ٢٠١٣بعد حادثة سوسة بيوم عاد عدد من مواطني مدينة سوسة وممثلين عن المنظمات الشبابية ومن المجتمع المدني الى نفس مكان الانفجار وبدأوا بالعزف والغناء والاحتفال. كانت تلك طريقة لبعث رسالة بأن الارهاب لن ينجح في ثني التونسيين عن الاستمرار في الحياة بالطريقة التي اعتادوها دون خوف أو رعب.
لكن لا يبدو ان هناك اتفاق عام حول تلك الرسالة.
خوف وانقسام في الشارع
في حديقة البلدفيدير أكبر متنفس بالعاصمة لا تزال العائلات التونسية تقبل على مساحات الهواء الطلق مصطحبين صغارهم لمشاهدة الحيوانات واللعب في الملاهي والمساحات الخضراء.
ورغم ان المتنزهات عرف تهميشا في السنوات الأخيرة الا ان ادارة الحديقة بالتعاون مع جمعية "احباء البلفدير" سمحت بتنظيم معارض بيئية ونباتية في الهواء الطلق داخل الفضاء بهدف مزيد استقطاب العائلات.
ويقول أحد الفاعلين في معرض النباتات داخل الحديقة في حديثه مع DW عربية: "الناس ما زالت تقبل على الحديقة اذا ما كان الطقس جميلا خاصة في عطلة نهاية الأسبوع. ليس هناك أجمل من الطبيعة لكن المداخيل حتى الآن داخل المعرض محدودة. شراء النباتات لا يمثل أولوية للعائلات التونسية في هذا الظرف الصعب انهم يأتون للترويح عن أنفسهم فقط".
وفي شارع الحبيب بورقيبة الرئيسي بقلب العاصمة تحدثت إلينا ليلى خلف الله (39 عاعا) وهي موظفة بالقطاع الخاص الى DW عربية قائلة "لا يمكن إنكارأن هناك مشاعر خوف تنتاب الكثير من العائلات التونسية وأغلبهم يحرصون على العودة مبكرا الى البيوت. بالنسبة لعائلاتي فإن أي مخطط للترويح عن النفس في النزل التونسية بات الآن مؤجل الى أجل غير مسمى بعد حادثة سوسة".
وتشاطر أميرة الشارني (20 سنة) وهي طالبة بمعهد التبنيج ما ذهبت اليه صديقتها ليلى خلف الله لكنها تضيف أيضا بأن الأحداث الارهابية تركت أثرا واضحا في العلاقات الطلابية داخل الجامعة.
وتضيف أميرة الى DW عربية أميرة قائلة "التواصل أصبح صعبا بين جميع الفئات الطلابية بسبب الخلافات الفكرية والثقافية وحتى في طريقة الملبس. هناك بعض الطالبات أصبح اختلاطهن نادرا مع البقية لمجرد ارتدائهن للنقاب".
والارتباك الذي بدأ يدب على نمط حياة التونسيين لا يقتصر على الحذر في الفضاءات العامة والمنتجعات السياحية بل امتد أيضا الى الحديث عن بداية زحف المجتمع المحافظ والتقليدي في مواجهة مجتمع الحداثة والرفاهية.
ويتحدث محمد الهمامي (25 سنة) وهو طالب في شعبة الرياضيات والفيزياء بالجامعة التونسية إلى DW عربية قائلا: "الرأي السائد لدى الرأي العام ان النمط المجتمعي للتونسيين القائم على الانفتاح والتحرر والإقبال على الحياة قد أصبح على المحك بعد الثورة بسبب صعود السلفيين وتهديدهم لتلك المكاسب. لكن في الواقع ان هذا النمط بدأ يشهد تغيرا راديكاليا منذ النظام السابق الذي ضيق على الحريات الدينية وضرب الأوساط المحافظة في مناطق مختلفة بالبلاد. اليوم نلاحظ تغيرا واضحا في طريقة عيش التونسيين مقارنة بفترة التسعينات مثلا. ولكن في اطار الدولة الديمقراطية التي نحن بصدد بناءها اليوم بعد الثورة يجب احترام كل الأنماط المختلفة في العيش".
الغلاء وانهيار القدرة الشرائية
ويعتقد الهمامي أن طريقة عيش التونسيين لم تتأثر بشكل كبير بالوضع الأمني أو بتواتر الإرهاب بدليل ان التونسيين ظلوا محافظين على أسلوب حياتهم اليومية حتى في ذروة الانفلات الأمني في أعقاب الثورة، لكنه يعتبر في المقابل أن السبب الأبرز في تحول نمط عيش التونسي هو تهاوي القدرة الشرائية التي بدأت بالتراجع منذ السنوات الأخيرة للنظام السابق وتفاقمت بعد الثورة بسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة.
بدورها تؤكد ليلى خلف الله بأن المخاطر الأمنية ليست وحدها المتسبب في اضطراب عيش التونسيين إذ يمثل الغلاء الحاد في الأسعار حسب رأيها سببا مباشرا لذلك. وتشير قائلة: "اذا استمر النسق الحالي في ارتفاع الأسعار فإن الطبقة الوسطى في تونس ستسحق".
وعلى مدى سنوات عديدة تباهت تونس بطبقتها المتوسطة الواسعة والتي ظلت تضم أكثر من 80 بالمئة من السكان حتى عام 2011. لكن في اعقاب الثورة تقلصت شيئا فشيئا حيث يرجح خبراء في تونس وصولها الى ما دون الخمسين بالمئة هذا العام بينما تقلصت قدرتها الشرائية بنسبة 25 بالمئة. وفي المقابل تفيد أرقام حديثة بأن نسبة الفقر في البلاد تعدت عتبة 20 بالمئة في ظل نسبة بطالة تصل الى نحو 16 بالمئة ونسبة تضخم تبلغ 5.8 بالمئة.
ويمكن ان يتدهور نمط عيش التونسيين والطبقة الوسطى بشكل خاص مع اقرار الحكومة التونسية لموازنة العام 2014 والتي وصفها الاتحاد التونسي للشغل، أكبر نقابة في البلاد، بـ"المجزرة الشعبية" لتضمنها العديد من الاحكام والقرارات المضرة بدخول المواطنين.
حالة احباط عامة
وتقر الباحثة الاجتماعية فتحية السعيدي في حديثها مع DW عربية بأن التونسيون يعيشون اليوم حالة احباط جماعية بسبب الأوضاع التي تمر بها البلاد بينما يشعر الكثيرون بتغير مستمر في حياتهم اليومية نتيجة تغيرالأنماط المعيشية والتشريعات والقوانين والأوضاع الاقتصادية.
وترى الباحثة بأن هناك نموذج مجتمعي كامن في تونس تعايش مع النموذج الحداثي لكنه طفى على السطح بعد ثورة 14 يناير/كانون الثاني مع صعود الحركات الاسلامية التي بحثت عن ترسيخ نموذج تقليدي ديني لكنه "مستورد" وبدأت بالترويج له عبر الحملات الانتخابية مستفيدة من الجدل الدائر حول الهوية.
وتضيف الباحثة بأن "الترويج لهذا النموذج المجتمعي الذي يختلف في جوهره عن المجتمع التقليدي التونسي، أنتج ظواهر اقتصادية جديدة عبر الاقتصاد الشكلي والتجارة الموزاية التي عادة ما تميز أنشطة الاسلاميين. ومثل هذا النمط الاقتصادي من شأنه ان يضرب ليس فقط الاقتصاد المنظم وإنما أيضا أبرز قطاعيين حيويين وهما قطاع الخدمات والسياحة".
وتعتبر فتحية السعيدي بأن الرغبة في التغيير وضرب جوهر الحياة الحديثة للتونسيين تبرز من خلال إصدار قانون الأوقاف الذي ودعته تونس منذ الاستقلال في خمسينات القرن الماضي ما يهدد فعليا بتقويض المؤسسات الحديثة للدولة وقد يغير من نمط حياة التونسيين بسبب تركيز نظام ملكية جديد مقيد.
لكن الباحثة تؤكد في ختام حديثها بأن المواطن التونسي شخصية متأصلة في "تونسيتها" ومتشبعة بمختلف الحضارات التي تعاقبت عليه وليس من السهل ان يتنازل عن نمط عيشه المتعارف عليه حتى مع محاولات إعادة النموذج التقليدي الدخيل على المجتمع التونسي.