فرنسا.. لماذا تحوّل "بلد الأنوار" إلى هدف للمتشدّدين؟
١٩ أكتوبر ٢٠٢٠حوالي 253 قتيلاَ ومئات الجرحى، أرقام أحصتها الصحافة الفرنسية لضحايا العمليات الإرهابية في البلاد منذ بداية عام 2015، لتأتي جريمة قطع رأس مدرس فرنسي بعد عرضه رسوما كاريكاتورية للنبي محمد على التلاميذ كانت صحيفة شارلي إيبدو قد نشرتها سابقا، وتؤكد أن فرنسا تعيش معركة واضحة المعالم ضد ظاهرة الإسلاميين الراديكاليين.
وليست جريمة مقتل المدرس صامويل باتي معزولة، فالأرقام تبيّن أن فرنسا هي أكثر دولة تعرّضت لهجمات إرهابية في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، إذ شهدت حوالي 18 هجوما، أبرزها الهجوم على شارلي إيبدو في يناير 2015، وهجمات باريس خلال نوفمبر من السنة ذاتها، وهجوم يوليو 2016 في مدينة نيس، وهجوم ستراسبوغ شهر ديسمبر/ كانون الأول 2018، وكلها خلفت قتلى وجرحى وارتكبها منتسبون لتيارات جهادية.
عوامل في الداخل؟
كثيراً ما رُبطت الظاهرة بالانعزال الذي تعيشه الجاليات المسلمة في فرنسا، إذ يتركز الكثير منها في أحياء هامشية ترتفع فيها معدلات البطالة ويكثر فيها الانقطاع عن الدراسة ويشكّل فيها السكان مجموعات منعزلة عن الثقافة الفرنسية. وازدادت الظاهرة استفحالاً بانتشار الإسلاموفوبيا في البلد، رغم أن الكثير من المسلمين في فرنسا هم كذلك ضحية للأعمال الإرهابية التي ضربت البلاد.
ويرى إبراهيم المهالي، إمام مسجد بيربينيان وباحث في القضايا الإسلامية بفرنسا، أن أغلب المتطرفين في فرنسا ليسوا أبناء المساجد ولا المراكز الثقافية الإسلامية، فهم "يملكون سوابق قضائية في ملفات لا علاقة لها بالدين، إذ يحاولون القطع مع ماضيهم بالتطرف والإرهاب" . ويتابع لـDW عربية أن مساراتهم تبيّن "أن لكل منهم دوافع شخصية بالأساس"، لكن عموما ما يلاحظ حسب قوله هو انحدارهم من الضواحي التي يتنامى فيها الإحساس بالتهميش.
بيدَ أن عادل اللطيفي، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة باريس، لا يرى أن الظاهرة تعود إلى التهميش، لأن الأحياء الهامشية توجد كذلك في دول غربية أخرى لم تعرف عمليات إرهابية بهذا الكم، بل تعود حسب رأيه إلى استهداف فرنسا من قبل جماعات متطرفة لأنها حسب زعمهم تدعم الإلحاد.
ويظهر الأمر هنا شبيها بما كما كان عليه الحال ضد الاتحاد السوفياتي سابقا، الفرق هنا أن هذا الاتحاد كان شيوعيا، فيما تتبنى باريس بشكل كامل العلمانية، وهي الدولة الوحيدة التي تفصل بشكل كامل بين الدين والدولة، وفق حديث اللطيفي لـDW عربية.
وكثيرا ما انتُقدت فرنسا على هذه السياسة من أوساط دينية، خاصة أنها من الدول القليلة التي تمنع ارتداء أيّ شيء يرمز إلى الدين، وتفرض قيودا بالغة على حضور الدين في الحياة العامة. ويشير اللطيفي إلى أن الجماعات الإسلامية داخل وخارج فرنسا ترفع شعارات المظلومية بكون الإسلام مستهدفا من السلطات، ما يزيد من النظرة السلبية التي يكنها جزء من الجالية المسلمة للسياسة الفرنسية.
هل لأنشطة فرنسا الخارجية أيّ دور؟
لم يخف تنظيم "داعش" الإرهابي وهو يتبنى عددًا من الهجمات في فرنسا أن يشير إلى الدور الفرنسي في الحرب ضد الإرهاب، خاصة أن باريس كانت حاضرة بقوة في التحالف الدولي ضد "داعش" في سوريا والعراق.
صحيح أن المشاركة الفرنسية ساهمت في دحر التنظيم، إلّا أنها فتحت الباب أمام الجهاديين للانتقام، خصوصا في ظل دولة عانت من ثغرات أمنية واضحة، سبق لمختصين أن أشاروا إليها. منهم القاضي السابق المكلف بقضايا الإرهاب، مارك تريدفيك، عندما صرّح عام 2015 بأن فرنسا هي العدو رقم 1 لـ"داعش"، وأنه من السهل له القيام بهجمات داخلها، وذلك بأسابيع قبل الهجوم الدموي في باريس.
تصريحات القاضي التي أدلى بها حينئذ لمجلة "باري ماتش" وخلقت ضجة واسعة، تضع الكثير من التفاصيل حول استهداف فرنسا، إذ يقول تريدفيك إن الإرهابيين ينظرون إليها كبلد استعماري مسيحي منذ انخراطها في الحرب ضد الجهاديين، فضلًا عن استغلالهم لعلاقاتها القوية مع إسرائيل وبيعها أسلحة لدول "فاسدة" في الخليج لمزيد من تشويه صورتها.
يضاف إلى كلام القاضي الصورة الذهنية الحاضرة عند الكثير من المغاربيين الذين يشكلون الجاليات الأكبر في فرنسا، فهم يربطون بين حاضر باريس وبين ماضيها الاستعماري، ويحملونها جزءاً كبيرا من التخلّف الذي تعيشه بلدانهم، خاصة لاستمرار علاقتها القوية بأنظمة الحكم في بلدان عربية متعددة.
"تدخل فرنسا في مالي زاد من عداوة الجهاديين لها، فبعد اندحار 'داعش' في سوريا والعراق وليبيا، توجه جزء كبير من مقاتليه إلى دول إفريقيا جنوب الصحراء، واصطدموا هناك بالقوات الفرنسية" يقول اللطيفي، مضيفا أن الجهاديين يرون أنها تعتدي عليهم. ثم يلعب التوتر الفرنسي-التركي دورا كبيرا في تأجيج العداء، يشير اللطيفي، فهناك تعاطف إسلامي شعبي كبير مع تركيا أردوغان في مواجهتها مع فرنسا ماكرون على أكثر من جبهة سياسية واقتصادية وإعلامية.
هل تؤجج إجراءات ماكرون الوضع؟
أعلنت باريس حملة توقيفات على خلفية جريمة مقتل المدرس، وفتحت تحقيقات في المنشورات التي تحرّض على الكراهية وتتعاطف مع منفذ الجريمة، بينما تستعد وزارة الداخلية لطرد 231 أجنبيا مدرجين على قائمة التطرف، بينهم 51 شخصا خارج السجن، كما قرّرت تعزيز الأمن في المنشآت الدراسية، فضلاً عن تشديد الخناق على جمعيات إسلامية لديها مصادر تمويل أجنبية.
غير أن السلطات تظهر متأخرة في محاصرة الخطر الراديكالي، فقد كشف تقرير برلماني فرنسي في يوليو/ تموز الماضي، أن ما أسماه بالتطرف الإسلامي في فرنسا "يمس كل مناحي الحياة الاجتماعية، ويميل إلى فرض نمط اجتماعي جديد، مستفيدا من الحرية الفردية" وفق ما يذكره التقرير الذي نشرته صحيفة لوفيغارو، ووصل الأمر إلى فرض "إقامة جبرية على أشخاص باسم العقيدة الدينية" في تلميح إلى ممارسات لمتشددين يرفضون خروج زوجاتهم إلى الفضاء العام.
ويصل عدد الأشخاص المدرجين في قوائم التطرف الإرهابي إلى حوالي 8132 حسب أرقام الداخلية الفرنسية. ويرى عادل اللطيفي أن أثر هذه الإجراءات سيأخذ وقتاً كبيراً بسبب التأخر الحاصل في مواجهة ظاهرة التطرف، خاصة انتشار الجمعيات والمنظمات المدنية التي تدعم التطرف، لكن الإجراءات حسب رأيه تبقى ضرورية للغاية.
غير أن الطريقة التي توجه بها ماكرون قبل أيام لمواجهة ما أسماه بـ"الانعزال الإسلامي" عبر رغبته بفرض قوانين صارمة منها الرقابة على التعليم المنزلي وإنهاء جلب أئمة من الخارج، زادت من توتر النقاش، خاصة بعد حديثه عن "الأزمة التي يمرّ بها الإسلام".
ويقول إبراهيم المهالي إن هناك تخوفا كبيرا لدى جزء كبير من المسلمين في فرنسا لوجود مداهمات يومية لمنظمات إسلامية تشتغل في العمل الإنساني، رغم أن الأئمة في فرنسا معروفون بدعوتهم للخطاب التقليدي الرافض للإرهاب، كما تُعرف المراكز الثقافية الإسلامية أساسا بأنشطة تعليم اللغة العربية.
ويتابع المهالي أن ماكرون يحاول التغطية على "فشله في تدبير أزمة ما بعد كورونا، وكذلك على نتائج سياساته الجديدة في المجال الاجتماعي"، لذلك بحث عن "عدو وهمي"، هو الإسلام، خاصة مع محاولات ماكرون جذب متعاطفين من اليمين المتطرف الذين يمثلون كتلة انتخابية مهمة.
إسماعيل عزام