متطوعة للاجئين ليست كغيرها من المتطوعين
١ مايو ٢٠١٦تبدو بناية مركز الإيواء الواقع في حي " فيلمرسدورف" البرليني في الوهلة الأولى وكأنها معقل محصن. يغمرك هذا الشعور وأنت تخطو نحو بوابة المركز القديمة العريضة. مباشرة بجوار المدخل الرئيسي وضعت حاوية زرقاء اللون بداخلها حارسان قويا البنية ، يرتديان بزة زرقاء داكنة اللون .
هنا في هذه الحاوية يُسجل كل شخص ينوى الدخول ولن يسمح له بدخول البناية الكبيرة البيضاء اللون بدون دعوة رسمية من سكان مركز الإيواء أو من لدن الإدارة ، كما يجب أن تكون بحوزته هويته الشخصية التي يتعين عليه تسليمها قبل دخول المركز.
تعد الحاوية نقطة الحراسة الأولى التي لا تبعد سوى أمتارٍ معدودة عن نقطة الحراسة التالية حيث يقف حارسان تنحصر مهمتهما بالدرجة الأولى في مراقبة الحقائب أو الأكياس التي يحملها النزلاء، كما تتمثل مهمتهما أيضا في التدخل جسديا في الأوقات الحرجة حيثما اقتضى الأمر. هذا ما أكده لي أحدهما بعربية متعثرة: " تتمثل مهمتنا هنا في حماية كل من يطلب منا الحماية والمساعدة داخل المبنى وفي محيطه الخارجي، من مهامنا أيضا التدخل جسديا حينما يخالف أي كان نظام البناية سواء كان من النزلاء أو من الغرباء أو الزوار ثم نقوم مباشرة بإبلاغ الشرطة"، ويضيف الحارس الكردي الأصل مبينا أن الأحداث المشينة والمعادية للاجئين التي جدت وتجد بين الفينة والأخرى في بعض الأحياء البرلينية وفي مقاطعات ألمانية أخرى تجعله يتخذ جانب الحذر أكثر فأكثر من كل فرد أو مجموعة تقترب من البناية ويشكّ في أمرها.
عقب الانتهاء من التسجيل والمرور عبر نقطة التفتيش دخلت المبنى بخطوات ثابتة وحثيثة وعلى مقربة من الساحة الداخلية للبناية التقيت السيدة شوتله المتطوعة التي واعدتني وكانت في انتظاري.
بادرتني المتطوعة الألمانية بالابتسام مظهرة تفهمها للحراسة الشديدة للواجهة الأمامية للبناية ثم قالت : "صحيح أن المظهر الخارجي يبعث الآمن والطمأنينة لدى البعض هنا إلا أن هنالك آخرين وهم كثر يقولون إن هذه الواجهة لا تعكس بالمرة رغبتهم الجامحة في الاندماج في المجتمع الألماني".
وبينما شرعنا نتجاذب الحديث ونحن ندلف إلى داخل البناية، تجمع رجال وشبان في حلقات متناثرة هنا وهناك في الساحة الشاسعة، يتمازحون ويتضاحكون ويتكلمون بأصوات مرتفعة، أما الأطفال فكان بعضهم يتراكض وآخرون يقودون بمرح دراجات هوائية .
"لن أنسى ما حييت إكرام السوريين لي في بلدهم "
السيدة شوتله ألمانية من مدينة شتوتغارت تقطن في برلين منذ أكثر من ستة عشر عاما. قضت عاما كامل في العاصمة السورية دمشق أثناء دراستها الجامعية في مدينة بريمن الألمانية. لم تتعلم المتطوعة الألمانية اللغة العربية واللهجة السورية فحسب بل تعرفت عن كثب على عادات وتقاليد السوريين كما أنها شاركت أصدقاءها وصديقاتها هناك أفراحهم وأتراحهم كما تقول. وتمضي المتطوعة في حديثها:"المساعدة التي قدمتها ولا أزال أقدمها للاجئين السوريين هنا في المركز لها بالدرجة الأولى دوافع إنسانية بحتة وليس لها أية علاقة بالبلد الذي عشت فيه وتعرفت فيه على خيرة الأصدقاء، وبما أني أملك وأتقن اللهجة السورية فقد شعرت بواجبي إزاء هؤلاء الذين احتضنوني في بلدهم وأحسنوا ضيافتي . لم أشعر في سوريا بالغربة قط . لن أنسى ما حييت ما قدمه لي السوريون في بلدهم حينما كان الأمن والأمان يعمّان ربوع هذا البلد الجميل".
شهد عدد المتطوعين في الأشهر المنقضية تراجعا حادا، و يعزي هذا التراجع إلى قصر ايام الشتاء الباردة من جهة، والى تراجع الحماس لدى البعض من جهة أخرى. لكن هذا لم يثنِ السيدة شوتله عن واجبها الإنساني وفي هذا الشأن تقول :"صحيح أنّ عدد المتطوعين بات قليلا اليوم وخاصة المترجمون (منهم والذين) باتوا بضاعة نادرة. منذ أن قررت البدء في العمل التطوعي هنا قررت المضي فيه وتقديم المساعدة الجدية خاصة وأنا امتلك أداة اللغة والعقلية التي تقربني من هؤلاء المحتاجين إلى المساعدة من قبلنا نحن الألمان " .
المشاكل تُحل مساء حول أقداح الشاي
ولكي يكون عملها مثمرا وجادا انتهجت المتطوعة طريقة جديدة تمثلت في تكثيف عملها بانتظام مع ثلاث عائلات، عوضا عن هدر طاقتها في مهام تراها ثانوية، كترتيب الألبسة والأحذية، ثم توزيعها على سكان المركز من اللاجئين.
استنبطت السيدة شوتله الفكرة بعد تجارب عديدة في بحر الأشهر الماضية حينما لحظت أن استفادة اللاجئين لا تؤتي ثمارها ما لم يركز العمل على عائلتين أو ثلاث عائلات وإلا لراحت جهودها هباء. وتواصل السيدة شوتلي القول :" إنّ الطريقة الجديدة التي توخيتها لا يمكن لي إتباعها إلا في المساء عقب انتهائي من عملي أو في نهاية الأسبوع. أتحول شخصيا إلى العائلة وأثناء شرب الشاي أشرع في قراءة الرسائل الرسمية المعقدة. مهمتي هنا تتمثل في الترجمة وتوضيح الخطوات التي يجب اتخاذها ومرافقتهم في الحالات القصوى".
وفي حديثها الشيق الهادئ كانت تجيبني بأريحية وهي تقول بأن مرافقتها للعائلة للدوائر الرسمية ضرورية جدا في بعض الأحيان كي تتمكن العائلة من تذليل الصعاب المتعلقة بالإقامة مؤكدة أن التعامل مع الدوائر الرسمية الألمانية ليس بالأمر الهين خاصة منذ قدوم اللاجئين.
وأنا أجول معها مختلف قاعات وأروقة البناية التي كانت قبل إيواء اللاجئين إدارة عمومية، كانت تلقي التحية على السكان الذين يمرون بجانبنا. فكان البعض منهم يأتي إليها ويوجه لها سؤالا وأخر يقص عليها الصعوبات التي عرفها اليوم في إدارة ألمانية ما. وكانت السيدة شوتلي ترد التحية أو تجيب سؤالا ما بلباقة وأريحية لا مثيل لها. هذه السيدة تلقب "بالألمانية المتحدثة باللهجة السورية".
"لولا السيدة شوتلي لعدت إلى جحيم سوريا"
عائلتا عبد الله وعلاء قدمتا إلى برلين في الصيف المنصرم، ومنذ ذلك التاريخ يقطنان هنا في مركز الإيواء الواقع في حي " فيلمارسدورف"، ولحسن حظهما أن المتطوعة شوتلي لم تنقطع عن عملها معهما ومع غيرهما ممن غادروا المركز. عائلة عبد الله التي لها طفل وحيد سعيدة جدا بالمتطوعة التي تتكلم لهجة سوريا وتتفهم حاجات الأسرة، وفي هذا الصدد يقول عبد الله :"نحن نعرف السيدة شوتله منذ البداية ويجب علي أن أقول بأن المساعدة المادية والمعنوية التي قدمتها لنا ولا تزال كانت مصيرية لنا. لولا حضورها ومساعداتها المعنوية خاصة والثقة المتبادلة بيننا لعدت مع عائلتي إلى سوريا كما هو حال العديد ممن عرفتهم هنا والذين قرروا العودة إلى العراق أو إلى سوريا".
علاء، الشاب الذي لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين ربيعا تحدّر من ريف دير الزور السوري الذي يسيطر عليه تنظيم داعش كما ذكر لي وأضاف يقول إن عائلته تربطها علاقة طيبة وحميمة مع المتطوعة، بل إن السيدة شوتله كما يقول أضحت اليوم جزءا من عائلته الصغيرة في برلين نظرا لحضور المرأة الألمانية المنتظم مع العائلة والدور الاستشاري الذي تضطلع به.
ويقول علاء إن شوتله مكسب له ولعائلته. كثيرا ما رافقت المتطوعة زوجته إلى الطبيب وإلى الدوائر الرسمية كمترجمة وأضاف يقول:" لقد كانت ولا تزال تقدم يد العون كلما طلبنا منها ذلك. نحن سعداء جدا بها ومعها، وكم نود أن نرد الجميل لهذه المرأة الطيبة ".
كثيرا ما أكدت السيدة شوتله وهي تبتسم أن اللحظات التي تقضيها مع العائلات السورية تذكرها بأصدقائها في بلاد الشام وما قدموه لها من مساعدة ناهيك عن الأوقات المرحة التي طالما استمتعت بها هناك.