اضطرابات نفسية تفتك بحياة الأطفال والشباب
١٢ أكتوبر ٢٠١٢كانت تجرح نفسها مرارا بشفرات الحلاقة والسكاكين. هذا ما تحكيه أولريكه وولف عن ابنتها كيم التي كانت تبلغ من العمر آنذاك خمسة عشر عاما. لم يلاحظ أي أحد في الأول أنها تعاني من مشاكل واضطرابات نفسية حادة ، لا الآباء ولا حتى المدرسين. فقط عند عثور والدتها على رسالة انتحار داخل هيكل السرير،عندها اتضحت خطورة الأمر. هذا ما عبرت عنه أولريكه وولف في مقابلتها مع DW: " كجزء من العائلة لا يدري المرء ما الذي يجري حقا. كنت أظن أنها تختلف ربما عن الأطفال الآخرين، ولكن لم أكن أعتقد أنها تعاني من مرض نفسي" . ولكن أولريكه وولف تعرف اليوم جد المعرفة أن تلك الرسالة كانت:" صرخة للمساعدة" وأن كيم في حاجة ماسة للعلاج.
إيذاء النفس لتخفيف الآلام الداخلية
الكثير من الأطفال والشباب المراهقين يقومون بحرق أو جرح أنفسهم من أجل التعبير عن معاناتهم . فالكثير منهم يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة، ولايجدون سوى الجرح والحرق والضرب للتخفيف من التوتر الداخلي الذي يلازمهم. هكذا يشرح البروفيسور روموالد برونر من جامعة هايدلبرغ هذه الظاهرة الخطيرة في مقابلته مع DW.
برونر، المتخصص في مجال الطب النفسي لدى الأطفال والمراهقين أشرف على دراسة طبية بعنوان "إنقاذ حياة الشباب ودعمهم في أوروبا"، أجريت في ألمانيا وشاركت فيها عشرة بلدان أوروبية بالإضافة إلى إسرائيل. وتناولت الأبحاث بشكل خاص الاضطرابات النفسية لدى المراهقين. وقام البروفيسور لهذا الغرض باستطلاعات للرأي، شارك فيها تلاميذ تتراوح أعمارهم بين 14 و 16 سنة، والتي أفرزت مثلا عن أن 8% من الأولاد ونحو 18 % من الفتيات سبق لهم وأن ألحقوا الأذى بأنفسهم ثلاث مرات على الأقل في حياتهم.ويقول برونر أن تزايد المشاكل النفسية والعقلية لدى الشباب والأطفال هو ما دفعه لإجراء هذه الدراسة. خاصة مع تكاثر الأفكار الانتحارية ومحاولات الانتحار. ويضيف برونر أن : "ثمانية في المائة من الفتيات اعترفن بمحاولة انتحار في حياتهن " . والجدير بالذكر في هذا الصدد هو أن الانتحار يعتبر السبب الرئيسي الثاني للوفاة بين المراهقين في أوروبا الوسطى، بعد حوادث السير.
نقمة المواقع الاجتماعية والهواتف الذكية
العديد من الشباب المراهقين وكذا بعض الأطفال يستبدلون التواصل مع أناس حقيقيين وربط صلات اجتماعية ملموسة بعوالم مصطنعة في العالم الافتراضي. و الكثير منهم يعاني من الإدمان على الإنترنت، فأغلبية أصدقائهم يجدونهم في الفيسبوك وغالبا ما يظنون أنهم لا يستطيعون العيش دون هاتفهم المحمول أو الذكي.
وهذا ما يعتبره برونر تطورا خطيرا وغريبا أيضا، حيث يقول: "لعله من المفارقات أن الإنترنت يعطي الفرصة لربط الاتصال وإقامة علاقات جديدة ومتعددة ، ولكنها في نهاية المطاف لا يمكن أن تكون بديلا للعلاقات والروابط الحقيقية".
هذه المجموعة من الشباب يصفها برونر بأنها "غالبا ما تتأثر بشكل مفرط من أعراض الاكتئاب، وتروج عندها الأفكار الانتحارية و تعاني من التوتر والقلق".
الإدمان على الهاتف المحمول ظاهرة شائعة في أوساط الشباب والمراهقين، هذا ما تؤكده أيضا، إيلين دو غوزمان، متخصصة في الطب النفسي للمراهقين والأطفال في مستشفى سومنيا بالقرب من مدينة كولونيا. هناك في المستشفى يتوجب على المرضى التخلي عن الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة أثناء فترة العلاج. وتضيف غروزمان: "استقبلنا مؤخرا مريضة تبلغ من العمر ستة عشر عاما ، وقد استغرق الأمر وقتا طويلا قبل أن تمكنا من إقناعها بالتخلي عن هاتفها المحمول" وتضيف الطبيبة المتخصصة أن الطفلة عبرت لها في محادثة خاصة في وقت لاحق أنها :" لم تكن تعتقد أنها ستستطيع قضاء ولو ساعة واحدة دون هاتفها المحمول".
ويعتبر العلاج الفني، والمحادثات الفردية والعلاج بمساعدة الحيوانات - مثل الكلاب –من أهم طرق العلاج المستخدمة في المستشفى. بالإضافة إلى ذلك يوفر المستشفى التدريس أيضا في المواد الأساسية، حتى لا يفقد الشباب الاتصال مع المدرسة. ويعيش حوالي خمسة عشر مريضا في هذه المستشفى.
وأما العلاج هنا فيأخذ في المتوسط بين ثلاثة وثمانية أسابيع. ومعظم الذين يأتون إلى هنا تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والعشرين ، وأغلبهم يعاني من اضطرابات عصبية أو القلق والخوف والتوتر. ويشرف طاقم من الموظفين المدربين من الأطباء وعلماء النفس على المرضى.
صعوبة التواصل في فترة المراهقة
بعض المشاكل النفسية مثل الأرق أو الشعور بالحزن أو بعض الخوف هي من الطبيعة البشرية، على حد تعبير برونر، ولكنه يشير: " إذا كانت هذه المشاكل قوية جدا ومفرطة وتحدث بشكل متكرر جدا،عندها يؤدي ذلك إلى عواقب وخيمة بالنسبة للمريض."
الكثير من الشباب المراهقين يقضون ساعات طويلة على شبكة الإنترنت ويتجولون في العالم الافتراضي الجذاب. وهذا ما تعتبره إيلين دو غروزمان تطورا خطيرا يؤثر على العلاقة مع الآباء والمحيط الخارجي: " خاصة في مرحلة المراهقة يبدأ الطفل في الشعور بالرغبة في الاستقلال والحرية والتحرر من قيد الآباء، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى حدوث فجوة كبيرة جدا في الاتصال والتواصل مع الآباء ".
وهذه الفجوة سرعان ما تكبر كلما كان الشباب يقضون ساعات أطول على الكمبيوتر، بحثا عن عوالم بديلة تبعدهم عن العالم الحقيقي.
تحفيز الشباب على العلاج
الكثير من الأطفال والمراهقين والشباب يخشون من التهميش والاضطهاد، إذا ما أفصحوا عن أمراضهم النفسية . ولهذا يرى الخبراء دورا مهما للآباء والمدرسين والمحيط الخارجي في تشجيع المرضى على التعامل مع المشكلة ومحاولة معرفة الأسباب بالإضافة إلى الاتصال والتحدث مع أشخاص ذوي ثقة أو اللجوء إلى طبيب نفساني. " ينبغي أن يفقد المرضى الخوف من إمكانية ضرورة العلاج".
كيم لجأت إلى طبيب نفساني، وقد مرت الآن ست سنوات منذ أن اكتشفت أمها مشاكلها النفسية . كيم أنهت الفترة الدراسية بنجاح وهي تقوم بتكوين مهني. وهي الآن في حال جيد، كما تقول أمها أولريكه وولف. ولكن آثار الجروح القديمة لازالت لم تختفي كليا.