اتهمه أردوغان بالانقلاب: من هو الداعية التركي فتح الله غولن؟
٢٢ أكتوبر ٢٠٢٤رأى الداعية التركي فتح الله غولِن أن مهمته تتمثل في ضمان أن يلعب الدين دوراً قيادياً من جديد في الدولة التركية، وأراد أيضاً -ووفقاً لتصريحاته- تعزيز حوار الأديان من خلال تفسير عالمي للإسلام.
ولهذا أسس غولن "حركة الخدمة" -أو ما تسمى بالتركية "حِزمَتْ"- وكانت تسمى غالباً "حركة غولن" على اسمه، وقد توفي غولن يوم الأحد 20 / 10 / 2024 في منزله بولاية بنسلفانيا الأمريكية بعد أن عاش هناك في منفاه الاختياري منذ عام 1999.
وخلال حياته المهنية أنشأ شبكة عالمية نشطة من المدارس ومنظمات المجتمع المدني، عملت على تحويل أفكاره ووجهات نظره العالمية إلى واقع ملموس، لكن الكثيرين باتوا يعتبرونه "عقلاً مدبراً لمخططات سياسية" أكثر من كونه واعظاً دينياً وداعية.
داعية ضد الشيوعية وصديق للساسة
لكن كيف تمكن غولن من إنشاء هذا المنظومة الناشطة محلياً وعالمياً؟ في عام 1962 كان غولن أحد مؤسسي "جمعية مكافحة الشيوعية" في شرق تركيا بمسقط رأسه مدينة أرضروم التي وُلد فيها عام 1941. وقد تمكن من ذلك نظراً لأنه كان يعمل داعيةً دينياً حتى وهو في سن الثامنة عشرة وهذا بعد تلقيه تعليماً إسلامياً خارج المدراس النظامية، كما أنه ابن إمام مسجد.
وبذلك اصطف غولن اصطفافاً واضحاً خلال الحرب الباردة إلى جانب المعسكر الغربي ضد الاتحاد السوفييتي، وانتشرت "جمعيات مكافحة الشيوعية" في جميع أنحاء تركيا مصبوغةً بأيديولوجية قومية ومتَّبعةً موقفاً مؤيداً للولايات المتحدة الأمريكية.
أما جوهر بصمته المستقبلية المميزة فقد بدأ في الظهور في عام 1966 حين انتقل غولن إلى مدينة إزمير في غرب تركيا لأسباب مهنية وذلك عندما أسس أول مقر لِـ"بيت النور" وهو نموذج أولي لحركته المتوسعة في السنوات التالية. ومنذ ذلك الحين نشط كمؤسس للمدارس والجمعيات فانطلقت حركته من إزمير وانتشرت في جميع أنحاء العالم، حتى ضمت -بحسب تقديرات متعددة- أكثر من 2000 مدرسة في حوالي 160 دولة، وهي مدارس مستقلة عن بعضها قانونياً.
وصارت مدارسه تُعتبر من أفضل المدارس في كثير من دول آسيا الوسطى، وأصبح عِليَة القوم ونُخَبهم في تلك البلدان يرسلون أطفالهم للتعلم فيها. وهذا في الواقع مما تتسم به حركة غولن "حركة الخدمة" التي تصف نفسها بأنها "حركة تعليم مدني"، فأنصاره وأتباعه متعلمون وناشطون في مجال الأعمال التجارية والأبحاث العلمية والشرطة والسلطات الأمنية والقضائية أيضاً وكذلك لهم تأثيرهم البالغ في وسائل الإعلام وداخل الدولة.
وقد تمكَّن غولن من خلال نفوذه السياسي من ضمان وصول تلاميذه ومَن علَّمَهم إلى مواقع مهمة في المؤسسات الحكومية التركية ومناصب رفيعة المستوى في مَفاصل الدولة. وفي خطاب ألقاه عام 1999 حثَّ مؤيديه على عدم الاستعجال بل التروي والتمهل في خطواتهم على درب التمكين السياسي والإمساك بزمام كامل السلطة.
وخاطب مؤيديه قائلا: "كل خطوة تخطونها تُعتبر أبكر من اللازم في طريق حصولكم على كامل السلطة في النظام الدستوري للدولة التركية"، وهو يعني بذلك وجوب انتظار الوقت المناسب من أجل المضي قدماً في تنفيذ الأجندة الذاتية، وهي: دولة تركية تحكمها الشريعة الإسلامية.
وفي ذلك الوقت كانت الدولة التركية العلمانية ترى في الحركات الإسلامية تهديداً لها بما في ذلك صعود رئيس بلدية إسطنبول آنذاك رجب طيب أردوغان.
لقد كان غولن مؤثراً ليس فقط في عام 2002 حين وصل حزب أردوغان -حزب العدالة والتنمية- إلى السلطة بل وأيضاً في الفترة التي سبقت ذلك. ففي التسعينيات بنى غولن علاقات جيدة مع السياسيين بمن فيهم أردوغان، ومع ذلك فقد اشترى غولن عام 1999 تذكرة سفر ذهاب إلى الولايات المتحدة من دون عودة.
والسبب على ما يبدو هو ما ذكره تقرير داخلي من الشرطة التركية أنه زعيم منظمة تحاول التسلل إلى الشرطة التركية والتغلغل فيها، واتُهِم غولن بالرغبة في "استبدال النظام الدستوري في تركيا بدولة ثيوقراطية" دينية، وبعد أيام من شرائه التذكرة وبالتحديد في 21 مارس / آذار 1999 سافر غولن إلى الولايات المتحدة مبرراً سفره بمعاناته من مشاكل صحية.
متحالف مع أردوغان في البداية
صحيح أن غولن لم يرجع بتاتاً بعد ذلك إلى تركيا لكنه رغم ذلك احتفظ بنفوذه السياسي في بلاده، بل وبالتوازي مع دخول حزب أردوغان إلى الحكومة -حزب العدالة والتنمية وهو حزب لديه أيضاً أجندة إسلامية محافظة- أصبح نفوذ غولن قوياً جداً لدرجة أنه أصبح قادراً على التأثير على السياسة من خارجها أكثر من أي جهة فاعلة أخرى.
ولسنوات حافظ أردوغان وغولن على التحالف فيما بينهما: فاستفاد الرئيس التركي الحالي من النفوذ الاجتماعي والمؤسساتي للداعية، الذي استفاد من القوة السياسية لأردوغان ومن شخصيته الكاريزماتية الجذابة للناخبين.
وبعد نجاح استفتاء على تغيير الدستور عام 2010 -مثلاً ليسمح بمحاكمة أفراد الجيش أمام محاكم مدنية- شكر أردوغان علناً غولن قائلاً في إشارة إلى وجوده في الولايات المتحدة البلد الواقع في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي: "شكراً جزيلاً للجانب الآخر من المحيط".
وناشد أردوغان في عام 2012 غولن على شاشة التلفزيون قائلاً: "فَلْينتهِ هذا الاشتياق"، وهذا كان بمثابة دعوة منه موجهة إلى غولن للعودة إلى تركيا. وكان فريق الداعية التركي قد كتب قبل عام من ذلك على موقعه الرسمي في الإنترنت إن غولن "لن يعود لأنه لا يريد أن يصبح سبباً لنقاش سياسي في تركيا".
من صديق لأردوغان إلى عدو لدود
ومع ذلك فقد أصبح غولن بالتأكيد مصدراً للنقاش في تركيا، إذ سرعان ما أدت خلافات عديدة بينه وبين أردوغان -نشأت لأسباب غير معروفة بدءاً من عام 2012- إلى حرب مؤسساتية بين التيارين، وفي تاريخ 17 ديسمبر / كانون الأول 2013 قُبِض على سياسيين كثيرين في حزب العدالة والتنمية بتُهَم فساد.
ونُسبت أوامر القبض عليهم إلى بيروقراطيين في الدولة مرتبطين بحركة غولن. وبعد أيام وبالتحديد بتاريخ 25 ديسمبر / كانون الأول 2013 تم التحقيق مع بلال نجل أردوغان. وبدءاً من هذه اللحظة وصف حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان حركة غولن بـ "الكيان الموازي" أو "كيان موازٍ للدولة" وأنها حركة قوية جدا بشكل غير قانوني في مفاصل الدولة.
لقد شكل ذلك أزمة بين الجانبين بلغت ذروتها في إحدى أمسيات شهر يوليو / تموز من عام 2016 حين اُتهِم غولن بأنه العقل المدبر لمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا بتاريخ 15 يوليو / تموز 2016، وهو اتهام تجدد حركة غولن رفضها مرارا وتكرارا. في المقابل تقول الحكومة التركية إن أنصار غولن في القوات المسلحة التركية خططوا للانقلاب.
ومنذ عام 2016 طلبت أنقرة من الولايات المتحدة تسليم غولن عدة مرات ولكن من دون جدوى، وقد صدرت مذكرة اعتقال بحقه في تركيا بقيت سارية المفعول حتى وفاته، بتهمة قيادة "منظمة إرهابية". وتشير الحكومة التركية حالياً إلى حركة غولن باسم "فيتو" بهذه الحروف التركية FETÖ التي تعني: "منظمة فتح الله الإرهابية".
لقد خلَّفَ غولن وراءه حركة عالمية نشطة وقوية مبنية على أفكاره يتعين على من يتولى قيادتها الانشغال بكثير من أمور الإدارة، لكن من سيخلف غولن في إدارة هذا الحركة؟
يرى مراقبون أن صراعاً داخلياً يدور حالياً على السلطة في الحركة بين اثنين من كبار أنصاره ومن دائرته الضيقة، والرأي السائد هو أن من الصعب للغاية أن يحل شخص محل غولن وأن الصراع على السلطة قد يؤدي إلى انقسام الحركة.
أعده للعربية: علي المخلافي