اتفاق جنيف…العالم يتغير
١٢ ديسمبر ٢٠١٣وإذا كان التباعد بين طهران وواشنطن قد أدى خلال السنوات الماضية إلى اندلاع حروب وأزمات إقليمية خطيرة كان من بينها الحرب العراقية – الايرانية وحرب تموز التي شنتها إسرائيل ضد حزب الله ، فإن التقارب أو التفاهم كانت له ذات المفاعيل والتداعيات الكبيرة، ولاشك في أن الحربين اللتين شنتهما إدارة الرئيس الاميركي جورج بوش وأسقطت نظامي طالبان وصدام، تمثل دليلاً قوياً في هذا الاتجاه.
ومن خلال قراءة متأنية في ظاهرة التقارب والتباعد بين طهران وواشنطن على مدى أربعة وثلاثين عاماً، يتبين أن اتفاق جنيف يختلف جوهرياً عن الاتفاقات السابقة ، فما تم بين طهران وواشنطن في جنيف جاء في ظل متغيرات دولية وإقليمية هائلة، لم يشهد لها العالم مثيلاً منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991 وما أعقبه من صعود القطبية الأحادية للعالم.
لقد فتحت الأزمة السورية الباب أمام عودة روسيا وبمساندة الصين لاستئناف دورها كقوة منافسة للولايات المتحدة على المسرح العالمي، حيث تمكنت موسكو وبكين من إغلاق بوابات مجلس الأمن الدولي لثلاث مرات بوجه واشنطن التي كانت تهيمن على المنظمة الدولية بشكل تام وتتدخل بأدق التفاصيل، ولم تفتح بوابات مجلس الأمن إلاّ بضوء أخضر من موسكو بعد اتفاق لافروف – كيري حول تدمير السلاح الكيماوي السوري، وهو الاتفاق الذي ألغى الضربة العسكرية الأميركية لسوريا وخيار الحل العسكري نهائياً والاتجاه لعقد جنيف 2 لحل الأزمة السورية.
اتفاق جنيف حاجة استراتيجية
إن إدارة الرئيس باراك أوباما التي كانت تراقب صعود المحور الروسي – الايراني على الصعيدين الدولي والاقليمي ، أدركت انه لم يعد مجدياً الاستمرار بسياسة تجاهل الدور الإقليمي لايران ، وإن الانفتاح على طهران سيقلل الخسائر الأميركية على الساحة الإقليمية كما هو حال الانفتاح على موسكو، وإذا كان السلاح الكيماوي السوري هو المحطة الأولى للتفاهم بين موسكو وواشنطن والذي ساهم بأفول مبكر للقطبية الأحادية ، فإن البرنامج النووي الايراني هو مفتاح التقارب الايراني – الأميركي ، مع اعتقادنا ، وكما اشرنا في مقال سابق ، إن الملف النووي لم يكن سوى لافتة كانت تتم من خلالها محاصرة طهران سياسياً واقتصادياً ، وإن الهدف الاستراتيجي للولايات المتحدة هو الدور الإقليمي لايران وليس الملف النووي.
وعلى هذا الأساس ، فان اتفاق جنيف يمثل حاجة استراتيجية لطهران وواشنطن على حد سواء، وانه من الخطأ أن يُنظر إليه على انه خسارة أو ربح لهذا الطرف أو ذاك ، باعتبار أن قطار جنيف انطلق من أخطر محطات الصراع الإقليمي في العالم التي شهدت معطيات جديدة برزت على أرض الواقع ومن ساحات إقليمية متعددة، كانت أشرسها ما يجري على الساحة السورية ، وبعبارة أدق ، فان المعطيات الواقعية وليس المصلحة الآنية هي التي دفعت الايرانيين والإميركيين إلى الجلوس وجهاً لوجه في جنيف وقبل ذلك في نيويورك ، وهذا بالضبط هو الذي دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى اعتبار اتفاق جنيف خطأ تاريخياً وإطلاقه تصريحات هستيرية ، وهي ذات الحالة التي عاشتها السعودية وكأنها تتجرع السم من يد حليفتها واشنطن.
ما زاد في حالة الغضب في تل ابيب والرياض ، المؤشرات والمعطيات التي تشير إلى أن الإدارة الاميركية تبدو حريصة على استثمار اتفاق جنيف وتحويله إلى استراتيجية اميركية لمرحلة مابعد انتهاء ولاية الرئيس باراك أوباما ، وأن يكون انفتاح واشنطن على طهران متوازياً للتفاهم مع موسكو، ذلك ان الهدف الاستراتيجي لاقتراب واشنطن من المحور الروسي – الايراني هو أولاً لمنع تنامي هذا المحور الذي أثبت قدرته على إفشال السياسة الاميركية على الساحة السورية ، وثانياً لتقليل الخسائر الاميركية على الساحتين الاقليمية والدولية بسبب ضعف حلفاء واشنطن الاقليميين وعدم قدرتهم في تنفيذ السياسة الاميركية في المنطقة.
خيارات السعودية لعرقلة الاتفاق محدودة
وبسبب الحاجة الاستراتيجية لكلا العاصمتين لتمرير اتفاق جنيف ، فان الأشهر الستة المقبلة ، ستمثل اختباراً بل تحدياً حقيقياً لمدى قدرة العاصمتين على حماية الاتفاق بغطائه النووي وعمقه السياسي ، وتقف اسرائيل واللوبي المؤيد لها في واشنطن إلى جانب السعودية في مقدمة التحديات التي تواجه اتفاق جنيف ، فاسرائيل التي لاحظت كيف ان الولايات المتحدة قد خذلتها مرتين في فترة زمنية قياسية ، الأولى في سوريا والثانية في الملف النووي ، تدرك جيداً أن المرحلة المقبلة ستكون صعبة جداً ، فواشنطن التي تسير باتجاه التوقيع في جنيف على بقاء الأسد في الحكم ، لن تكون مستعدة بعد الآن لإعطاء الضوء الأخضر لتل أبيب لمهاجمة طهران عسكرياً ، وبما يعني ان اسرائيل ستتحول تدريجياً إلى عبء ثقيل على الولايات المتحدة التي لم يعد لديها ما تقدمه سوى الضغط على حكومة محمود عباس وتقديم المزيد من التنازلات لنتنياهو ، وهو أمر في غاية الصعوبة في المرحلة الحالية.
أما بالنسبة للسعودية ، فان خياراتها في إعاقة تنفيذ اتفاق جنيف لاشك في إنها أقل بكثير من اسرائيل ، لكنها تحتفظ بقدرة في الضغط وإثارة المشاكل والعقبات في عدد من الملفات وتحديداً في سوريا ولبنان والعراق من خلال استخدام الجماعات الارهابية في محاولة لإرباك الاتفاق واستعادة وترميم ما بقي لها من دور اقليمي بدأ يتضاءل بدرجة كبيرة في المنطقة العربية وخصوصاً في مجلس التعاون الخليجي. فلم يعد سراً ان الكويت وقطر وعمان ودولة الامارات التي سارع وزير خارجيتها لزيارة طهران ، لاتشاطر الشقيقة الكبرى – السعودية – الرأي في الانفتاح الاميركي على ايران ، وهذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها السعودية في عزلة حقيقية داخل البيت الخليجي وفي قضية تخص العلاقة مع ايران ، والاكثر من ذلك ان تقوم سلطنة عُمان بدور الوسيط بين طهران وواشنطن ، ثم تقوم دولة الامارات المتخاصمة سياسياً مع ايران حول الجزر الثلاث بدور الوسيط بين طهران والرياض التي لم يبق لها من الأشقاء من يقف إلى جانبها سوى البحرين.
وتعد تركيا من بين حلفاء واشنطن الذين قرأوا جيداً ابعاد اتفاق جنيف ، حيث هرول وزير خارجيتها داود اوغلو لزيارة طهران والإدلاء بتصريحات سياسية تمثل انقلاباً في الدبلوماسية التركية تجاه ايران وتفوح منها (رائحة النفعية) سياسياً واقتصادياً ، فأنقرة تحلم أن يكون لها مكان عند تقاسم الكعكة الايرانية بعد رفع العقوبات الاقتصادية عن ايران.
سيظل العالم مشدوداً على مدى ستة أشهر وهو يراقب اتفاق جنيف الذي سيشكل في حال تنفيذه لحظة تاريخية تمهد لبناء نظام عالمي جديد ، وستكون الساحات السورية واللبنانية والعراقية إلى جانب منشآت اراك ونتانز وفردو واصفهان ، الاختبار الحقيقي لهذا الاتفاق التاريخي.
ياسين مجيد: نائب في البرلمان العراقي عن ائتلاف دولة القانون