ألمانيا تغلق أبوبها امام المهاجرين رغم حاجتها الماسة إليهم
١١ نوفمبر ٢٠٠٦
بعد الحرب العالمية الثانية بدأت مرحلة جديدة من التاريخ الألماني وحركة الهجرة الداخلية والخارجية من شرق البلاد (جمهورية الماينا الديمقراطية سابقاً) والبلدان الأوربية الأخرى. فبعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وتقسيمها الى أربعة قطاعات بين الحلفاء هاجر الكثير من الألمان الشرقيين الى جمهورية المانيا الاتحادية (الغربية)؛ وفي منتصف الخمسينات بدأ العمال الطليان بالقدوم الى المانيا تبعهم الاسبان والبرتغاليين والأتراك. منذ تلك الفترة ومع النمو المضطرد للاقتصاد الألماني ولاسيما في قطاعي البناء والصناعة، بدأت موجات العمال المهاجرين تتدفق على ألمانيا من مختلف الدول تلبية لحاجة سوق العمل المنتعشة.
سياسة متشددة تجاه المهاجرين
مع ازدياد عدد العمال الأجانب واستقرارهم في ألمانيا بجانب المهاجرين الذين توافدوا على البلاد بسبب كثرة الحروب والمجاعات في بقاع مختلفة، بدأت الحكومة الألمانية تهتم بتنظيم وتقنين حركة الهجرة لتغيّر سياستها التي كانت سائدة حتى ثمانينات وأواسط تسعينات القرن الماضي وتتبنى سياسة جديدة ترتكز على التشدد والحد من عدد المهاجرين والتحكم بحركة قدومهم وتوجيهها حسب مصلحة المجتمع الألماني واحتياجات سوق العمل ولاسيما مع ارتفاع نسبة البطالة التي تجاوزت الـ 10% عام 2005. لذلك قام الائتلاف الحاكم (الحزب الاشتراكي والاتحاد المسيحي) بتشكيل مجموعة عمل لدراسة كيفية تسهيل هجرة أصحاب الاختصاص والكفاءات العلمية والمستثمرين الى ألمانيا، وبالمقابل قطع الطريق على المهاجرين الآخرين الذين يشكلون عبئاً على المجتمع والدولة.
أما السبب في سياسة التشدد التي تنتهجها الحكومة الألمانية تجاه المهاجرين فيعود الى ارتفاع نسبتهم في المجتمع وما ينتج عن ذلك من مشاكل وتحديات، حيث يصل عدد الأجانب الى 15,3 مليون، أي ما يعادل حوالي 20% من عدد سكان المانيا البالغ 82,4 مليون. وهذا يعني أن واحدا من كل خمسة أشخاص له أصول مهاجرة او على الأقل احد والديه، مع العلم ان ثمانية ملايين من هؤلاء المهاجرين، أي أكثر من نصفهم، يحملون الجنسية الألمانية.
المشاكل والتحديات المرتبطة بالهجرة
مع ارتفاع عدد المهاجرين وزيادة نسبتهم في المجتمع الألماني، تزداد المصاعب والتحديات المستقبلية الناتجة عن ذلك، والتي يأتي في مقدمتها التغيّر الديموغرافي في المجتمع الألماني واندماج المهاجرين في هذا المجتمع وضرورة تجنب المشكلات الناتجة عن ذلك بما فيها البطالة والعيش على هامش المجتمع وبناء مجتمعات موازية بالانكفاء والانغلاق على الذات. بالاضافة الى هذه المشكلة الأساسية، هناك مشكلات أخرى مثل صراع الثقافات المحتمل بين مختلف شرائح المجتمع، والخوف من الأجانب والتمييز ضدهم والعداء لهم من قبل بعض الألمان، لاسيما بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية وازدياد خطر الهجمات الإرهابية للإسلامويين، ناهيك عن نسبة البطالة المرتفعة بين المهاجرين والتي تصل الى 25% خصوصا بين الشباب منهم من الجيل الثاني والثالث.
ومن أجل مواجهة هذه المصاعب والمشكلات المرتبطة بالهجرة والمهاجرين واندماجهم في المجتمع الالماني، أصدرت الحكومة الالمانية قانون الهجرة الذي بدأ العمل به مع بداية عام 2005. والهدف الأساسي للقانون هو تجسيد السياسة الرسمية الجديدة المتمثلة بالتحكم بحركة الهجرة وادماج المهاجرين، لذلك حدد القانون الشروط الواجب توفرها للحصول على التأشيرة والسفر الى المانيا والاقامة فيها بهدف الدراسة أو العمل أو الاستثمار الذي يشترط ألاّ يقل عن مليون يورو وتوفير عشر فرص عمل. كما أنه تم ولأول مرة في تاريخ المانيا تقنين وتنظيم ادماج المهاجرين في المجتمع الالماني وتشجيعهم على ذلك من خلال الدورات التعليمية والبرامج والمشاريع الثقافية والاجتماعية.
انخفاض مستمر في عدد المهاجرين
في عام 1992 وصل عدد المهاجرين القادمين الى المانيا الى اعلى مستوياته ليتجاوز الـ 780 الف مهاجر، وبعد ذلك العام أخذ عددهم يتناقص بشكل مستمر ليصل الى أدنى مستوياته عام 2004 بدخول حوالي 82 الف مهاجر الى الاراضي الألمانية. ولهذا الانخفاض الكبير في عدد المهاجرين أسباب عديدة من أهمها انتهاء حرب البلقان التي كانت السبب في نزوح مئات الآلاف من السكان هرباً من الحرب الأهلية واللجوء الى المانيا وغيرها من الدول الاوروبية، كما ان الحكومة الالمانية توصلت الى اتفاقيات ثنائية مع بعض الدول التي كانت مصدراً لقدوم اللاجئين، فانخفض عدد هؤلاء بشكل كبير جداً ليصل الى اقل من 29 الف عام 2005 بعد ان وصل عام 1992 الى 440 الفاً. ومن الاسباب الاخرى للتقلص المستمر في نسبة المهاجرين هي تشدد الحكومة الالمانية في اعطاء تأشيرة لم الشمل العائلي والانخفاض الكبير في عدد المهاجرين الروس من اصل الماني القادمين من دول الاتحاد السوفيتي السابق. بالاضافة الى هذه الاسباب يعتبر العامل الاقتصادي ايضاً هاماً في هذا المجال بسبب الازمة التي يمر بها الاقتصاد الالماني وانكماشه وبالتالي ارتفاع عدد العاطلين عن العمل ليصل ارقاماً قياسياً لم يصلها منذ إعادة توحيد الدولة الالمانية، مما افقدها جاذبيتها الاقتصادية التي كانت تتمتع بها حتى ثمانينات القرن الماضي.
الحاجة الى الكفاءات العلمية والأيدي العاملة
بالرغم من تشدد الحكومة الألمانية في سياستها تجاه المهاجرين، إلا انها بحاجة مستمرة الى قدوم مهاجرين جدد ولاسيما من أصحاب الكفاءات والاختصاصات العلمية وخاصة في مجال المعلوماتية؛ لذلك قدمت الحكومة لهذه الفئة من المهاجرين امتيازات خاصة مثل حصولهم على حق الإقامة والعمل بمجرد قدومهم الى ألمانيا. وقد توصلت احدى اللجان الحكومية برئاسة السيدة ريتا زوسموت، الرئيسة السابقة للبرلمان الألماني من الحزب المسيحي الديمقراطي، بعد البحث والدراسة الى نتيجة مفادها ان المانيا تحتاج كل عام الى 25 الف مهاجر جديد من أصحاب الاختصاص في المجالات الصحية والمالية والتأمين، هذا عدا عن الحاجة الى 15 الف مهندس من مختلف الاختصاصات.
ولكن رغم الحاجة وبعض الامتيازات التي تقدمها الدولة الى تلك الفئة من المهاجرين أصحاب الاختصاصات والكفاءات العلمية العالية، إلا ان القليل منهم يقدم الى المانيا وذلك لأسباب عديدة منها، حسب بعض الاقتصاديين، عدم الانفتاح الكافي لسوق العمالة الألمانية، بالإضافة الى مشكلة اللغة وعقلية المجتمع الألماني الذي تعتبر تجربته قليلة في التعامل مع المهاجرين مقارنة بالمجتمعات الأخرى، لذا يفضل هؤلاء الهجرة الى الدول الأخرى مثل بريطانيا وأمريكا. والحاجة لا تقتصر على النخب العلمية، وانما هناك حاجة الى الايدي العاملة من أصحاب المهن والكفاءات العادية ايضاً حسب معهد اِنفو للبحوث الاقتصادية.
ويذهب بعض الخبراء الى ان هناك حاجة ديموغرافية ايضاً لاستقدام المهاجرين، فقد توصل المعهد الالماني للبحوث الاقتصادية الى نتيجة مفادها ان المانيا سوف تحتاج الى حوالي 710 آلاف مهاجر كل عام للمحافظة على النسبة المطلوبة لتغطية حاجة سوق العمل من الأيدي العاملة وذلك نتيجة الانخفاض الحاد في نسبة الولادات لدى الألمان، مما سيؤدي الى ارتفاع نسبة الأجانب في المجتمع الألماني لتصل الى 45% عام 2050. وتجدر الاشارة هنا الى ان هناك حركة هجرة معاكسة ايضاً. ففي العام الماضي ترك حوالي 145 الف الماني بلادهم، والملفت للنظر ان نسبة المهاجرين ترتفع بين الشباب أصحاب المهن والكفاءات العلمية حيث يهاجر واحد من كل سبعة من حملة شهادة الدكتوراه الى الخارج وغالباً باتجاه امريكا. وهذا يشكل تحدياً وخسارة فادحة، فهي خسارة للاقتصاد الوطني أولاً واضعاف للقدرة الالمانية على المنافسة العالمية ثانياً.
دويتشه فيله – عارف جابو