ألمانيا تحاكم مرتكبي التعذيب.. إلى أي مدى انحدر نظام الأسد؟
١٣ يناير ٢٠٢٢في أول محاكمة على مستوى العالم ضد أعضاء في نظام التعذيب السوري، يُتهم العقيد السابق بجهاز المخابرات أنور ر. بارتكاب أكثر من 30 جريمة قتل و4000 حالة تعذيب وحرمان خطير من الحرية، وثلاث حالات على الأقل من العنف الجنسي.
ويطالب ممثلو الادعاء الألمان بتوقيع عقوبة السجن المؤبد على أنور البالغ من العمر 58 عامًا، والذي يحمل علامة مميزة عبارة عن شامة تحت عينه اليسرى، مع إثبات جسامة جرمه، وهذا من شأنه أن يجعل إطلاق سراحه بعد 15 عامًا أمرا مستحيلًا. ومن المقرر أن يصدر الحكم اليوم الخميس (13 يناير/ كانون الثاني 2022).
وللمفارقة فإن إلقاء نظرة على جرائم نظام القمع السوري ومدى نحداره، يتم بالذات في مكان خلاب المنظر، حيث يقع مبنى المحكمة الإقليمية العليا في كوبلنز، المشيد من الحجر الرملي الأحمر، مباشرة عند نهر الراين المتدفق بجلال، والمكان لا يبعد كثيرا عن المدينة القديمة الجميلة.
ومنذ عامين تقريبًا تعقد هنا جلسات محاكمة جرائم بشعة. ويتم خلالها إلقاء الضوء على نظام القمع السوري بشكل عام، وعلى المسؤولية الفردية لعقيد المخابرات السابق أنور ر.، بشكل خاص.
صور التقطها "قيصر" وناجون من التعذيب وخبراء
إنها قضية ضخمة. فقد تم فيها الاستماع لأكثر من 60 شاهدا، من بينهم العديد من الناجين من التعذيب. وقدم الخبراء تقارير. وشوهدت أدلة من بينها صور للمصور العسكري السابق "قيصر". وقالت رئيسة المحكمة القاضية آنه كيربر في فبراير / شباط العام الماضي، إنها لن تنسى أبدًا صور ضحايا نظام التعذيب تلك. وفي كوبلنز تم تداول مسألة اختفاء ما لا يقل عن 102 ألف شخص دون أن يتركوا أثراً في براثن الأجهزة السرية، كما تم أيضا بحث التعذيب الموثق الذي أدى لوفاة أكثر من 14 ألف شخص.
في مقابلة مع DW يرى المحامي المدافع عن حقوق الإنسان في برلين فولفغانغ كاليك أن المحاكمة تعتبر إنجازا رائعا، خاصة في ظل ظروف كورونا. وكاليك هو مؤسس المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان (ECCHR)، الذي يمثل الناجين السوريين من التعذيب كمدعين بالحق المدني في محاكمة كوبلنز.
وأهم استنتاج بالنسبة إليه من هذه القضية هو أن "مثل هذه المحاكمة ممكنة في ألمانيا. وهذا يعني أن التعذيب الذي تمارسه دولة ما في أماكن أخرى (خارج ألمانيا)، يمكن أيضًا التعامل معه من قبل المحاكم الألمانية".
لقد أصبح هذا ممكناً بموجب مبدأ عالمية القانون، المنصوص عليه في القانون الجنائي الدولي. ويمكن أيضًا أن يلاحق القضاء الألماني جرائم ضد الإنسانية حتى لو لم يتم ارتكابها في ألمانيا ولم يكن الجاني أو الضحية ألمانياً.
التعذيب: من وسيلة إلى غاية
في كوبلنز، ينصب التركيز على ما حدث في "فرع الخطيب" بدمشق بين أبريل/ نيسان 2011 وأيلول/ سبتمبر 2012. في ذلك الوقت كان أنور ر.، الذي درس القانون، رئيسا لقسم التحقيقات بفرع الخطيب، بعد عقد ونصف من العمل لدى جهاز المخابرات. وقد كان لديه مكتبه الخاص، وسيارة الخدمة الخاصة، وتحت إمرته أكثر من 30 مرؤوسًا.
وكان السجن أو "فرع الخطيب" جزءً من الفرع 251 التابع لجهاز المخابرات العامة، المسؤول عن الأمن في دمشق ومحيطها. وقد تغير "الخطيب" وتحول إلى مكان مرعب بشكل لا يصدق، حدث هذا على أبعد تقدير مع بداية الثورة السورية في أوائل عام 2011، مع امتلائه بصراخ المعذبين، في ظل ظروف سجن لا توصف، لمعتقلين ن لم يكونوا يعرفون ما إذا كانوا سيخرجون من هذا الجحيم أحياء مرة اخرى.
لأنه مع الاحتجاجات، تغيرت طريقة عمل أجهزة المخابرات بشكل جذري. فلم يعد التعذيب يستخدم فقط لاستخراج المعلومات، وإنما أصبح الأمر يتعلق بالردع والانتقام والإبادة الجسدية للمعارضين.
وكانت القاضية كيربر قد صرحت بالفعل في فبراير/ شباط الماضي، بأن مجرد السجن في ظل هذه الظروف يرقى إلى مستوى التعذيب الدائم. ولا أحد ينكر حالات الوفيات ولا التعذيب الكثيرة التي وقعت في فرع الخطيب، ولا حتى المتهم نفسه، عقيد المخابرات. ومع ذلك فهو يرفض أي ذنب له. وقال في بيان شخصي الخميس الماضي إنه لم يعذب أحدا شخصيا ولم يصدر الأمر بالتعذيب.
وإثبات خلاف ما قاله هو أمر بالغ الصعوبة. وقال المحامي الدولي لحقوق الإنسان فريتس شترايف لـ DW على هامش المحاكمة: "كلما ارتفعت رتبة الشخص في التسلسل الوظيفي، قل ارتكابه المباشر للجرائم بنفسه". ولذلك يؤكد مكتب المدعي العام الاتحادي في مرافعته أن "اشتراك أنور ر. في الجرائم ناتج عن منصبه داخل التسلسل الوظيفي بالفرع 251".
تابع رغما عنه؟
يرفض محامو رجل المخابرات الاتهامات في مرافعاتهم ويطالبون بالبراءة ويصورون أنور ر. على أنه تابع رغم أنفه، ففي بداية الاحتجاجات تخلى في قرارة نفسه عن النظام وساعد السجناء بقدر ما كانت لديه من سلطة محدودة للغاية، كما يقولون. وأضافوا أن رؤساءه لم يعودوا يثقون به وجردوه من سلطاته في يونيو/ حزيران 2011. وبعد ذلك، أصبح مجرد رئيس صوري فقط لقسم التحقيقات، حتى تم نقله إلى قسم آخر في سبتمبر/ أيلول 2012.
ورغم ذلك، تمكن أنور ر. من الاحتفاظ بامتيازاته كعقيد، مثل سيارة الخدمة. وفي نهاية عام 2012، فرّ أنور ر. مع أسرته من سوريا إلى الأردن وانضم للمعارضة، التي احتفت به كمنشق ذي رتبة رفيعة، لدرجة أنه في عام 2014، كان أنور ر. جزءًا من وفد المعارضة التي شاركت في محادثات حول مستقبل سوريا في جنيف.
يدرك كاليك، رئيس المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان، معضلة أنه في المحاكمة الأولى ضد النظام القمعي السوري، هناك شخص ما يجلس في قفص الاتهام، رغم أنه أدار ظهره للنظام. ويقول كاليك: "من ناحية أخرى: فإن انشقاق الشخص لا يسقط بالطبع الحساب على الجرائم المرتكبة. وإذا كنت، بصفتي الضابط المسؤول عن قسم التعذيب، مسؤولاً عن موت وسوء معاملة عشرات الأشخاص، فلا يمكنني أن أمحو ذلك من خلال الانشقاق" عن النظام.
من شاهد إلى متهم
ربما الأمر الذي يجعل أنور ر. يشعر بالمرارة بشكل خاص هو أن التحقيقات ضده بدأت بعدما قدم نفسه طواعية كشاهد، في أغسطس/ آب 2017، لضابط في مكتب الشرطة الجنائية بمدينة شتوتغارت. وكان الضابط يقوم آنذاك بجمع أدلة ضد سوري آخر بسبب جرائم ضد الإنسانية.
أثناء الاستجواب، تحدث أنور ر. بصراحة عن دوره في جهاز المخابرات، بما في ذلك التعذيب وحالات الوفاة في الفرع 251. وتم إرسال هذه المعلومات إلى "وحدة جرائم الحرب" التابعة لمكتب الشرطة الجنائية الاتحادية، وبذلك بدأ التحقيق مع أنور ر. ثم جرى اعتقاله في 2019.
ويبدو أنه من المفهوم قيام ضابط شرطة شتوتغارت بإبلاغ "وحدة جرائم الحرب". وكشاهد قال ذلك الضابط في كوبلنز إنه عندما سأل أنور ر. بشكل أكثر دقة عن التعذيب، كان يجيب: "مع العديد من الاستجوابات في يوم واحد، لا يمكنك أن تكون مهذبًا دائمًا. ومع الجماعات المسلحة، عليك أحيانًا أن تكون أكثر صرامة".
في النهاية: مُتعَب بشكل خاص
في نهاية المحاكمة، يبدو أنور ر. مسنًا ومتعبًا بشكل ملحوظ، كما قالت المراقبة السورية للمحاكمة لونا وطفة لـ DW. الصحفية نفسها كانت مسجونة في سوريا. وفي كوبلنز كانت تجلس في قاعة المحكمة في كل مرة كانت تنعقد فيها جلسة المحاكمة. وبخلاف ذلك، لم يتغير أنور ر خلال هذه المحاكمة، كما لاحظت لونا وطفة. "إنه لا يزال يظهر نفس تعابير الوجه كما كان في بداية المحاكمة"، ولا تظهر على أنور ر. أي انفعالات.
عندما يجلس أنور ر. في قاعة المحكمة، ينظر إلى بابين، تبرز فوقهما نقوش بأحرف لاتينية. على أحدهما عبارة "فلتتحقق العدالة" وعلى الآخر "بنفس الميزان"، أي بنزاهة وبدون تحيز. ربما طلب أنور ر. ذات يوم أن تترجم له معاني العبارتين. وعلى أي حال، فقد أعلن في تعليقه الختامي أنه سيقبل حكم يوم الخميس وأنه يثق في القانون الألماني والقضاء الألماني.
ماتياس فون هاين/ ص.ش