أزمة سياسية وتدابير استثنائية.. على التونسيين شد الأحزمة!
١ أغسطس ٢٠٢١يقلب وديع بن سليمان هاتفه الجوال وهو متكئ على كرسيه داخل محل بيع الخزف في المدينة القديمة بينما تقترب عقارب الساعة من منتصف النهار، وحتى الآن لم يستقبل وديع أي زبون في المحل.منذ اجتياح وباء كورونا البلادومثل مئات الآلاف من العاملين في قطاع السياحة ممن تقطعت بهم السبل بسبب البطالة القسرية، يكافح وديع على الصمود ماديا، ولكنه بدأ منذ عدة أشهر في استنزاف ما يملكه من مدخراته لتغطية تكاليف المحل الذي يعمل فيه منذ عام 1969 وحتى يتفادى إغلاقه.
اكتسب المحل سمعته في السوق كونه الوحيد الذي يوفر منتجات وأواني من الخزف يصنعها عمال حرفيون يدويا في ورشة تتبعه. وهذا أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت وديع إلى أن يتمسك بالحفاظ على محله فضلا عن أنه يريد تخليد ذكرى والده الذي رحل منذ عام 2018 بعد أن قضى قرابة نصف قرن في إدارة المحل.
انهيار اقتصادي واجتماعي ونقمة
يستحضر وديع المسار المتعرج الذي عرفته تجارته منذ أحداث الثورة في عام 2011 ولا يدري اليوم إلى أين يسير قطاع السياحة المنهار مع أزمة وباء كورونا وإعلان الرئيس قيس سعيد التدابير الاستثنائية في البلاد، في أحدث منعطف للانتقال الديمقراطي في تونس.
ويقول بائع الخزف لـDW عربية متذمرا "بدأت الأزمة عندما كان والدي على قيد الحياة منذ عام 2011. وكان تأثير الضربات الإرهابية التي حدثت في عام 2015 قويا. أمكن لنا استعادة الأمور نسبيا عام 2018 ومن ثم جاء وزير السياحة رونيه الطرابلسي ومعه حققنا طفرة قبل أن ينهار الوضع مرة أخرى مع كورونا".
وعلى الرغم من إعلان وزارة السياحة عن تدابير لمساعدة قرابة 800 ألف من الحرفيين والتجار والعاملين في القطاع السياحي بشكل مباشر وغير مباشر، فإن وديع لم يتحصل على شيء من المساعدات ومع ذلك فإنه لا يملك خيارا آخر الآن غير تحمل أعباء الأزمة بمفرده وانتظار الأمل بانفراج قريب.
ويوضح وديع "أحاول أن أوفر المال من مصادر أخرى. لدي عاملين اثنين وكلاهما متزوجان ولديهما أبناء. لا يمكنني التخلي عنهما. نحن نتطلع معا إلى المستقبل على المدى البعيد. وعلينا أن نضحي خلال هذه المدة".
وإذا كان بائع الخزف على استعداد لمزيد من الصمود في وجه الأزمة المزدوجة فإن الأمر لا يبدو كذلك لدى غالبية التجار في أزقة المدينة القديمة، حيث اضطر عدد منهم لإغلاق محلاتهم فيما يواجه آخرون دعاوى قضائية لخلاص شيكات بلا أرصدة مقابل السلع التي اشتروها وبقيت مكدسة في المخازن.
وتسبب هذا الوضع المشابه في عدة قطاعات أخرى من الأعمال الحرة في حالة من النقمة والسخط إزاء الطبقة الحاكمة مع تسجيل نسبة انكماش غير مسبوقة للاقتصاد وصلت إلى 8 بالمئة عام 2020 مع خسارة الآلاف من فرص العمل وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة.
وكان من مظاهر ذلك السخط خروج المحتجين في الشوارع في يوم عيد الجمهورية 25 يوليو/ تموز تلاها في المساء مباشرة إعلان الرئيس قيس سعيد التدابير الاستثنائية في البلاد لمدة 30 يوما قابلة للتجديد ليعقبها احتفال الآلاف في الشوارع ليلا متحدين حظر التجوال الليلي.
ويروي لطفي الغربي الذي كان منهمكا في النحت على صحن نحاسي لـ DW عربية "هؤلاء دمروا البلاد. لا أحمل قناعات أيديولوجية، لكن حركة النهضة وحلفاءها من باقي الأحزاب جلبوا لنا الخراب منذ 2011. أحتاج لدخل شهري لا يقل عن ألف دينار لأعيل عائلتي لكن منذ سنوات لا أتوصل إلى جمع نصف هذا الدخل. من أوصلنا إلى هذا الوضع؟".
أزمة متراكمة
وللدلالة على هشاشة الوضع الاجتماعي في البلاد توصلت دراسة شاركت في إعدادها ثلاث مؤسسات بحثية بعنوان "ميزانية الكرامة" أصدرها مكتب منظمة "فريديريش إبرت" الألمانية في تونس، إلى أن مستوى المعيشة في تونس يتطلب دخلا لا يقل عن 2500 دينار تونسي (حوالي 900 دولار أمريكي) بالنسبة لعائلة تتكون من أبوين وطفلين (14 عاما و7 سنوات) ويشمل ذلك نفقات السكن والصحة والتعليم والنقل والتغذية.
وتبرز الهوة واسعة بين الاحتياجات الحقيقية للمعيشة والحد الأدنى للأجر الشهري في تونس والمقدر بحوالي 430 دينار لنظام 48 ساعة عمل في الأسبوع. ويعني ذلك أن دخل أبوين عاملين بالأجر الأدنى يقل ثلاث مرات عن الاحتياجات الحقيقية للمعيشة.
ويوضح عمر العودي المحلل الاقتصادي ورئيس تحرير "موقع البورصة" الاقتصادي بأن الأزمة متراكمة منذ عقد وضربت كل القطاعات بما في ذلك قطاع السياحة الذي يمثل وحده 14 بالمئة من الناتج المحلي بسبب مطالب شعبية بتحسين الوضع وظروف العيش.
ويضيف العودي لـDW عربية "في قطاع السياحة مثلا. عملت الدولة على الحفاظ على مواقع الشغل عبر منح امتيازات ضريبية وجدولة ديون وقروض ميسرة. منح هذا شيئا من التفس للقطاع بين 2017 و2019 ولكن المشاكل الهيكلية ظلت قائمة حتى اليوم وهذا يعود إلى تواتر الحكومات واهتمامها بأولوية التموقع السياسي بدل وضع إصلاحات عميقة".
"انقلاب على الدستور"!
لكن على الرغم من الحصيلة الاقتصادية الكارثية لا يرى شق آخر وجاهة الخطوة التي تبناها الرئيس سعيد لقلب الطاولة على البرلمان واحتكار السلطات. ويبقى هذا الإجراء في نظر قياديي وأنصار حركة النهضة "انقلاب على الدستور" وتمهيدا لوضع أكثر خطورة على مستقبل الديمقراطية في البلاد.
وقد صل الأمر إلى حد التحذير المبطن من رئيس الحركة والبرلمان راشد الغنوشي، مناجتياح متوقع للآلاف من التونسيين للسواحل الأوروبية في حال ترسخ عدم الاستقرار في البلاد وعدم العودة إلى وضع ما قبل 25 يوليو/ تموز.
ويقول أحد المحتجين ضد تجميد البرلمان، عبد الرزاق العكايشي الذي يعمل مقاولا للبناء لحسابه الخاص، "إن سعيد له برنامج آخر غير الأحزاب وممارسة الديمقراطية وقد وجد أرضية جاهزة تتمثل في شباب مهمش يحلم ويتوق لمن ينقذه. لكن هذا لا يبرر الانقلاب على الديمقراطية واحتكار سلطات الدولة. هذا ليس له اسم غير الدكتاتورية".
ويحذر العكايشي في حديثه لـDW عربية من أن "تمسك سعيد بقراراته قد يدفع في الأيام القادمة برافضي التدابير الاستثنائية للخروج إلى الشارع وعددهم ليس بالقليل".
وليس واضحا ما إذا كان الرئيس سيكتفي بمدة 30 يوما للتدابير الاستثنائية، فالتمديد يظل ممكنا من الناحية الدستورية وفق الخبراء. ففي غياب محكمة دستورية الرئيس وحده من يملك سلطة تقديرية. كما لم يطرح الرئيس بعد خارطة طريق واضحة لهذه المرحلة في ظل التحديات الواسعة الماثلة أمامه وأولها الأزمة الصحية ومكافحة الفساد وإنعاش الاقتصاد العليل.
ويقول المحلل الاقتصادي عمر العودي "لا يملك سعيد سوى تقديم تطمينات وكسب الثقة، وهذا عامل مؤثر على رد فعل الشعب. على سعيد أن يعرض خارطة طريق عاجلة وإجراءات ملموسة مطمئنة في مكافحة الفساد وضرب الاحتكار ومجالات تتقاطع مع المعيشة اليومية للمواطنين".
وداخل متجر الخزف لا يتوقع وديع آمالا كبرى، وأكثر ما يهمه في الوقت الحالي هو زوال وباء كورونا سريعا وعودة السياح إلى تونس وإلى المدينة العتيقة، ويضيف لـDW عربية "لا أتوقع منهم شيئا. ما رأيته من فساد منذ عام 2018 أمر يفوق وصفه. الأفضل أن نتدبر أمرنا".
تونس – طارق القيزاني