أدوار غير مألوفة للجيش في تونس: إنقاذ أم استقواء؟
١٥ مارس ٢٠٢٤ينتظر سكان الحي الشعبي بمنطقة "الجبل الأحمر" بفارغ الصبر انتهاء أشغال إعادة تهيئة "المسبح البلدي" التاريخي بوسط العاصمة، الذي طال انتظاره، قبل أن تتعهد المؤسسة العسكرية أخيرا بالمهمة بدلا من المقاولات المدنية، بأوامر من الرئيس قيس سعيد.
وعلى مدى عقود ومنذ تأسيسه في ثلاثينات القرن الماضي، ظلّ المسبح المكشوف والمبني على الطراز الأوروبي في تلك الفترة، متنفسا للناشئة وسكان العاصمة ومن ثم بات مقصدا لأبناء الأحياء الشعبية التي شكلت لاحقا الحزام الفقير للعاصمة، ومن بينهم منطقة "الجبل الأحمر" و"حي الخضراء" و"برجل" وغيرها.
يمثل المسبح أحد الفضاءات الترفيهية الملحقة بحديقة "البلفيدير" بوسط مدينة تونس. لكنه تحول إلى بناية متداعية ومهجورة بسبب طول فترة إغلاقه منذ العام 2004 من قبل السلطات البلدية، وتعثرت محاولات إعادة التهيئة بسبب البيروقراطية ونقص التمويل.
لكن المسبح عاد إلى دائرة الضوء بعد أن لفه النسيان، مع زيارة أولى مفاجئة للرئيس قيس سعيد لم تأت بجديد، ثم زيارة ثانية انتهت بتفويض الجيش لتولي مسؤولية إعادة التهيئة بتمويلات قدمها بنك تونسي.
مهام أخرى بعد الثورة
وهذه ليست المرة الأولى، بعد ثورة 2011، يتولى فيها الجيش مسؤوليات خارج نطاق مهامه التقليدية، والمتمثلة أساسا في حراسة الحدود والدفاع عن السيادة.
فقد لعب الجيش التونسي أدوارا غير مألوفة بعد ثورة 2011. فعلاوة على تأمين المؤسسات السيادية والمنشآت الحساسة في البلاد في ذروة الانفلات الأمني وتفكك المؤسسة الأمنية إبان الثورة، إذ تولى الجيش حراسة المحاصيل الزراعية والغابات وقام بتأمين الامتحانات الوطنية في التعليم وتوفير كافة المتطلبات اللوجستية لجميع المحطات الانتخابية لاحقا.
ويشير تقرير نشرته مؤسسة "كارنيغي"، إلى أن الجيش التونسي وبالمقارنة مع باقي الجيوش في المنطقة، ليست له تركيبة تقليدية. فهو غير مبني على أساس ديني أو عرقي أو جهوي أو طائفي، بل يستند إلى معايير أكاديمية.
تمثل تلك المعايير أهمية بالغة في الأدوار التقنية التي اضطلع بها الجيش، حيث كانت بصمته واضحة في مجابهة "أزمة وباء كورونا" التي تفشت بشكل كبير في تونس بين 2020 و2022. ومن خلال تدخله عبر المستفشيات الميدانية في عدة محافظات وإدارة حملات تطعيم مكثفة، تجنبت البلاد نتائج أكثر مأساوية.
تعيين عسكريين في مناصب مدنية
وفي ذروة الجائحة، عيّن الرئيس قيس سعيد عميدا بإدارة الصحة العسكرية هو الدكتور علي المرابط وزيرا للصحة، ما منح الجهود الوطنية دفعة قوية في مكافحة الوباء.
لكن التعيينات في الإدارة لم تقف عند هذا الحد، ففي آب/أغسطس عام 2022 عين الرئيس سعيد الجنرالَ مصطفى الفرجاني، وهو طبيب بالصحة العسكرية، مستشارا في القصر الرئاسي برتبة وزير، على أن يحافظ على خطته كرئيس قسم الانعاش بالمستشفى العسكري. وليس واضحا الصلاحيات التي أسندت إلى الفرجاني.
وفي يناير/كانون الثاني 2023 عهد الرئيس قيس سعيد إلى الجنرال عبد المنعم بالعاتي، المتفقد العام للقوات المسلحة، بتولي منصب وزير للزراعة. يأتي التعيين في أعقاب أزمة متصاعدة لتناقص المواد الاستهلاكية الأساسية ومن بينها النقص في إنتاج الخبز، المادة الغذائية الحيوية للتونسيين، بسبب فقدان مادتي السميد والدقيق في الأسواق. وهي من بين آثار حرب روسيا في أوكرانيا التي طالت تونس أيضا.
وعلى المستوى البنية التحتية، كلف الرئيس سعيد الإدارات المرتبطة بالصحة العسكرية والهندسة العسكرية والأشغال العسكرية، بمهمة إعداد الدراسات الفنية لمشروع مدينة صحية في مدينة القيروان، وهو مشروع طالما سوّق له الرئيس لتحسين الخدمات الصحية ولكنه لا يزال يفتقد إلى التمويلات اللازمة.
"أزمة ثقة بين الإدارة والمواطن"
وفي تعليقه لـDW عربية، أرجع المحلل السياسي والمؤرخ الجامعي بـ"معهد الحركة الوطنية" خالد عبيد استراتيجية الرئيس إلى "ضعف الإدارة المدنية والاختراقات الحزبية التي طالت المؤسسة طوال سنوات الحكم التي اعقبت ثورة 2011".
ويضيف عبيد في ملاحظته: "تكونت صورة سلبية للإدارة أمام الرأي العام. فإذا أردت إفشال مشروع عليك بمنحه إلى الإدارة.. بسبب ذلك حدث شرخ في الثقة بين الإدارة والمواطن. والرئيس مثل أغلب التونسيين يدرك تعثر الإدارة".
حصل الجيش على النسبة الأعلى من الرضا في استطلاعات الرأي التي أجريت بعد الثورة وأشرفت عليها مؤسسة "سيغما كونساي"، تجاوزت عتبة 90 بالمئة لدى الجمهور المستطلع. ووصل الأمر إلى حد مطالبة "حراك 25 يوليو" المؤيد للرئيس سعيد بـ"عسكرة المنشآت والمؤسسات الوطنية الحساسة لضمان استدامة الانتاج". وهناك احتلاف في وجهات نظر المختصين بتونس بشأن مصداقية استطلاعات الرأي التي تنجزها شركات في ظل غياب شفافية وقوانين واضحة تنظم عملها.
"لم يتغير الوضع" ومخاوف من الحديث
لكن رغم الخطوات التي اتخذها الرئيس التونسي عبر الدفع بقيادات عسكرية من أجل إحداث تغيير في المؤسسات العمومية، إلا أن النتائج لم تكن في مستوى التطلعات.
وقال المؤرخ خالد عبيد لـDW: "حتى مع تعيين مدراء ووزراء عسكريين فإن الوضع في الإدارات لم يتغير. لأن الأمر يتعلق أولا بتغيير العقلية وتغيير الظروف. الإدارة تحتاج إصلاحات عميقة مثلها مثل أغلب الميادين".
وتابع عبيد في تحليله: "لم يتم تطبيق الإصلاحات لأنها تحتاج إلى جهد كبير. وفي ظل الوضع الحالي يصعب تطبيقها إن لم يكن مستحيلا بسبب الإمكانيات. يظل تعافي الإدارة رهين تحسن الوضع الاقتصادي والمالي للتونسيين".
رغم الاحتكاك المحدود بالسلطة، فإن الطبقة السياسية تتوجس من توسع أدوار الجيش لا سيما مع ارتفاع شكاوي النخبة المثقفة والمعارضة من تعاظم قيود السلطة على الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ووسط نقاش عام حول قانون جديد يعتزم الرئيس قيس سعيد إصداره يتضمن المزيد من الرقابة على مصادر تمويل الأحزاب وأنشطتها.
وما يعزز الهواجس وجودُ سوابق لملاحقات قضائية طالت نشطاء وسياسيين امام القضاء العسكري بتهم مثل الحط من "كرامة الجيش".
ومع تحريك دعاوي ضد نشطاء وسياسيين وصحافيين عبر قانون مكافحة الإرهاب ومرسوم 54 للرئيس قيس سعيد، الذي يحدد الجرائم المرتبطة بشبكات التواصل الإجتماعي، لم يتسنَ لـDW الحصول بسهولة على إفادات من خبراء في تقريرنا هذا. واعتذر وزير سابق لـDW عن الخوض في المسألة.
الجيش والسلطة في تونس
يُعد تدخل الجيش في الحياة السياسية بشكل مباشر، أمرا نادرا في تاريخ تونس الحديث. لكن الحادثة الأشهر في ذلك كانت محاولة الانقلاب على حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، باني دولة الاستقلال عام 1962. وانتهت المحاولة بإعدام معظم من شاركوا في التخطيط لها.
ومع أن الرئيس اللاحق زين العابدين بن علي، الذي صعد إلى السلطة في عام 1987، ينحدر من المؤسسة العسكرية برتبة جنرال قبل أن يصبح مديرا للأمن ثم وزيرا للداخلية ووزيرا أول، فقد كان أكثر حرصا على تحجيم سلطة الجيش وصلاحياته.
وأشهر الأحداث التي رافقت حكمه هي ملاحقته لمئات العسكريين، الذين اتهموا بالتدبير لانقلاب في بداية تسعينيات القرن الماضي، في ما يعرف بقضية "براكة الساحل"، وهي منطقة بجهة الساحل التونسي. وقد زج بالكثير منهم في السجون فيما زادت القيود والرقابة على العسكريين.
كما أثار السقوط الغامض لمروحية عسكرية عام 2002 ووفاة 13 عسكريا كانوا على متنها، من بينهم رئيس أركان جيش البر، الكثير من الجدل والتأويلات حول ملابسات الحادث، فيما اكتفت السلطة حينها بالاشارة إلى عطب فني بمحرك المروحية.
وكان دور الجيش في هذه الفترة مقتصرا أكثر على المساعدة في مشاريع التنمية ومجابهة الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والحرائق. وساعد ذلك خلو تركيبته من أي معايير أيديلوجية أو عقائدية.
لكن ظهور الرئيس سعيد إبان صعوده إلى الرئاسة في 2019، في زيارات متواترة إلى الثكنات العسكرية والأمنية بعث بإشارات غير مطمئنة إلى المعارضة إلى أن جاءت قرارات 25 تموز/ يوليو 2021، التي أطاحت بالنظام السياسي القائم، بعد اجتماع "لمجلس الأمن القومي" الذي ظهر فيه الرئيس سعيد أمام قيادات عسكرية عليا.
وتولى الجيش بعد إعلان القرارات، إغلاق البرلمان وقصر الحكومة ومبان إدارية أخرى حساسة، ومنع النواب والموظفين من دخولها.
وأشار تقرير للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى أن "حضور كبار قادة الأمن والجيش خلال الاجتماع الطارئ، الذي ترأسه الرئيس قيس سعيد، والمسارعة إلى تنفيذ قراراته، يطرحان تساؤلات عن موقف المؤسسة العسكرية من الانقلاب الرئاسي على الدستور، وعما إذا كان التزامها بتعليمات الرئيس يأتي من باب الانضباط العسكري وتطبيق التعليمات الصادرة عن القيادة، أو من باب أنه تحول في التعامل مع الشأن السياسي بأداء أدوار مباشرة فيه، بعد أن ظلّت بمنأى عن التجاذبات السياسية".
وأضاف المركز في تقريره: "رغم الصمت الذي التزمته المؤسسة العسكرية إثر 25 تموز/ يوليو 2021 والغموض الذي ظل يلف موقفها، فإن إصدار مرسوم رئاسي بإقالة وزير الدفاع إبراهيم البرتاجي، بعد يوم واحد من الانقلاب، ثم عزل المدعي العام العسكري، يؤشر إلى وجود صعوبات واجهت الرئيس سعيد في توظيف المؤسسة العسكرية برمتها في مشروعه الجديد".