يوميات سورية ـ صباح الخوف والانفجارات.. صباح دمشقي بامتياز
٢٧ سبتمبر ٢٠١٢لم تعد هناك حاجة لاستخدام ساعة المنبه في المنازل منذ انتقال الاشتباكات إلى دمشق. لقد حلت محلها أصوات القذائف التي تنهال منذ الصباح الباكر على أحياء العاصمة السورية الساخنة، ما يدفع معظم السكان إلى الاستيقاظ باكرا. وتعتبر جارتي نجوى هذا الأمر "من أهم فوائد الثورة السورية على السوريين". بيد أن منبه اليوم كان قويا ومرتفعا جدا على غير عادته، ما أدى إلى اهتزاز البناية التي أسكن فيها بأكملها ما دفعني إلى التوجه فورا وبشكل لاإرادي إلى شرفة منزلي لمعرفة مصدر هذا الصوت القوي الذي ملأ أرجاء العاصمة.
لم أكن الوحيدة التي خرجت تستكشف، بل خرج أيضا جميع سكان الأبنية المجاورة إلى شرفاتهم وارتسمت على وجوههم علامات الخوف والذهول. ولم تمض دقائق قليلة حتى سمعنا دوي انفجار آخر، وبدأت العيون بالبحث عن المكان الذي سينتهي إليه الصوت. وما هي إلا لحظات حتى ارتفعت كتلة من الدخان والغبار من قلب الأبنية في وسط دمشق ومن ثم أخذت تخبو ليبدأ دخان أسود كثيف بالصعود مشكلا غيمة سوداء كبيرة تغطي الأفق ناجمة عن حريق ضخم من هذه المنطقة. وترافق ذلك مع سماع صوت إطلاق رصاص غزير دون معرفة مصدره. وأمام مثل هذه الحوادث تتسع حدقة العين في محاولة منها لاستيعاب المشهد بأكمله. إنها تحاول جاهدة أن تخمن إن كان ما يحدث هو حقيقة أم خيال؟ بالطبع الحقيقة كانت أقوى من الخيال فمكان الحادث لا يبعد عنا سوى كيلو متر واحد فقط.
وقطع هذا الذهول استنفار أمني كبير لرجال الأمن في الحي وهم مجهزون بالعتاد الكامل،. عناصر الأمن انتشروا بسرعة وبدؤوا بالصراخ في وجه كل من يقف على الشرفات، كما أخذوا يأمرونهم بالدخول إلى منازلهم، وهم يطلقون عبارات التهديد بأن كل من سيخرج إلى الشرفة سيكون نصيبه رصاصة في الرأس، ما أدى إلى دخول الجميع إلى بيوتهم خوفا من تنفيذ هذه التهديدات.
أدرت جهاز التلفاز على قنوات التلفزيون الرسمية علها تكون السباقة كعادتها في نقل أخبار الانفجارات، إلا أنها كانت مستمرة في نقل برامجها المعتادة هذه المرة ولم تنوه ولو بخبر بسيط عن الأمر. لم يبق أمامي سوى الاعتماد على حاسوبي ودخول موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك الذي أصبح نافذتي الوحيدة على العالم في الآونة الأخيرة. وبالفعل تبين لي فورا بأن الانفجارين ناجمان عن استهداف مبنى هيئة أركان الجيش في ساحة الأمويين في قلب العاصمة دمشق. إلا أن الهاجس الأكبر الذي أقلقني هو حدوث هذه التفجيرات تزامن مع ذهاب التلاميذ إلى المدارس. ما يعني أن حياة الكثيرين من الأطفال قد تكون في خطر.
لم تمض سوى دقائق قليلة حتى تأكدت هذه الهواجس التي راودتني، إذ سمعت جارتي نجوى تقول لزوجها "أسرع فالأولاد في الشارع". فتحت الباب لأستطلع الأمر منها. نجوى شرحت لي أن طفليها استقلا حافلة المدرسة قبل التفجير بعشر دقائق وهما الآن في الشارع بعد أن اضطرت الحافلة إلى التوقف بسبب إغلاق إحدى الطرق الرئيسية التي تؤدي إلى المدرسة. قررت النزول مع نجوى وزوجها لجلب طفليهما.
كانت شوارع المدينة شبه خاوية على غير عادتها في مثل هذا الوقت الذي تكون فيه في أوج ازدحامها؛ أي وقت خروج الأطفال إلى المدارس والموظفين إلى دوائرهم. إلا أن عناصر الأمن والشبيحة كانوا هم من ينتشرون في الشوارع بشكل كبير ويفتشون السيارات ويرمقون المارة بنظرات التهديد الوعيد. كما كان دوي سيارات الإسعاف المسرعة يملأ المكان وهي تتوافد إلى موقع الانفجارين في ساحة الأمويين. اضطر زوج صديقتي نجوى إلى استخدام الطرق الجانبية في دمشق هربا من الحواجز التي أغلقت شوارع المدينة الرئيسية التي تؤدي إلى ساحة الأمويين بشكل نهائي، وهي شوارع مهمة ومفصلية في العاصمة دمشق. هذا الإغلاق أدى إلى حدوث اختناقات مرورية فجائية عند مدخل هذه الشوارع. وينبغي القول إن هذه الاختناقات المرورية لم تعد غريبة على السكان هنا، بل اعتادوا عليها وأصبحوا يتكيفون معها باكتشاف شوارع وأحياء فرعية للتخلص من هذا الازدحام والحواجز الأمنية.
اقتربنا من الشارع الذي تقف فيه حافلة المدرسة التي تقل الأطفال، إلا أن وجود حاجز أمني كبير يفصل بيننا وبين هذا الشارع دفع زوج نجوى إلى ركن السيارة جانبا والذهاب مشيا لجلب الأطفال. لم تمض ربع ساعة حتى ظهر زوج صديقتي مع طفليهما إذ كانت فرحة نجوى لا توصف برؤية الطفلين سامر ومحمد. غير أن شيئا ما حدث أدى إلى توقف زوج نجوى والتوجه نحو الحاجز برفقة الطفلين. وبعد نقاش طويل سمح عنصر الأمن للطفلين وحدهما بالعودة إلى السيارة دون الأب. وعندما سألتهم نجوى عن سبب إيقاف أبيهما أجاب سامر "يريد الشرطي أن يعاقب بابا لأنه لم يمر على الحاجز". كانت صدمة كبيرة بالنسبة لنا، فكلمة "العقاب" التي يتحدث عنها رجل الأمن قد تصل إلى "الإعدام الميداني"، كما يتردد على ألسنة الناس هنا، خصوصا في ظل هذا الاستنفار الأمني الكبير الذي تشهده المدينة.
مضت الدقائق ثقيلة ونحن نرقب من بعيد ما سيقوم به رجل الأمن مع زوج نجوى حيث كان الأخير يحاول الاعتذار بشتى الوسائل كي يعفو عنه رجل الأمن إلا أنه كان مستمرا في الصراخ في وجهه وشتمه بعبارات غير مفهومة. وفي النهاية يبدو أنه زوج نجوى استسلم في إشارة منه لينفذ عقابه الذي كان يتوعد به الرجل، فما كان من عنصر الأمن إلا أن صفعه على وجهه صفعة قوية أدت إلى التفافه وتراجعه إلى الوراء عدة خطوات، ثم أمره بالعودة إلى السيارة. عاد زوج صديقتي نجوى إلى السيارة وهو يحاول أن يخفي الدموع التي نزلت على وجنتيه. كان ينظر إلى الدخان الذي مازال يتصاعد من مكان الانفجارين وهو يكرر عبارة "الحمد لله مازلت على قيد الحياة".