يوميات سورية ـ زيارة لأحد مواقع الجيش الحر
١٠ يوليو ٢٠١٢وجدت رسالة الكترونية في بريدي تقول إن علي السفر صباح اليوم التالي لإنجاز تقرير عن إحدى المدن في ريف حلب. اتصلت بصديق لي من "إعلاميي الثورة" وأخبرته أني سأكون ضيفته في اليوم التالي وشرحت له سبب الزيارة.انطلقت من كراج دمشق فجراً لألتقي صديقي الذي عرفني بدوره على صديقته الشابة، التي تنحدر من نفس المدينة التي علي إعداد تقريري عنها. أعطتني رقم صديقها "عادل"، أحد ناشطي المدينة،ونصحتني بارتداء حجاب كي لا يميزني "العواينية" عن السكان "فالمنطقة إسلامية بس الشاب شيوعي".
التقيت بعادل الذي أصر على أن يصطحبني من حلب "المحافظة" كي لا أسافر بمفردي. طلب مني أن ارتدي النقاب، واتصل على الفور بإحدى صديقاته كي تعيرني ملابسها السوداء. لقد كانت المرة الأولى التي أشعر فيها أنه يُفرض علي شكل لا يمت إلي بصلة. انطلقنا إلى المدينة التي لا أعرف عنها شيئا سوى أنها "إسلامية" ومع صديقي الجديد، الذي أجهل عنه كل شيء إلا يساريته. كان علينا أن ننتظر بعض الوقت كي ينسق لنا "أبو عادل"، والد صديقي، موعدا مع كتائب الجيش الحر في ريف المدينة.
بدأت رحلتي بوصول سيارة المكتب الإعلامي في المدينة لاصطحابي إلى المعسكر الأول حيث كانت سيارات الجيش الحر بانتظارنا عند الطريق الزراعي المؤدي إلى ريف المدينة. فزيارة صحفية من دمشق، ومن مؤسسة إعلامية معروفة، أمر بالغ الأهمية لهم وحمايتي ووصولي بسلام مسؤولية كبيرة على عاتقهم.
وصلنا إلى المعسكر وكانت الكتيبة متأهبة لاستقبالنا. فوجئت بأنهم مجموعة من الشباب في مقتبل العمر نشطوا في الحراك السلمي، واختاروا بعد أكثر من عام من التظاهر تشكيل كتيبة مسلحة "تدافع عن نسائهم وأعراضهم بعد ما تعرضوا له من مداهمات وقصف واعتقالات عشوائية"، حسب توصيفهم. بعد إجراء المقابلة أعدوا العشاء احتفاء بي، إذ لم يكن تدينهم عائقا أمام مجالستي واستضافتي. بعد العشاء أخبرتهم برغبتي في الانتقال للقاء كتيبة أخرى تبعد عنهم حوالي 60 كم. فقال لي قائد الكتيبة: "يا أختي نبعت معك مرافقة من كتيبتنا لنوصلك وبترجعي بتنامي عندنا، حضرنالك غرفة مستقلة مع حمام وبكرا الصبح نطلع سوا على مظاهرة الجمعة اللي بدنا نحميها".
انطلقنا نحو المنطقة "المحررة"، التي تعسكر فيها الكتيبة الثانية، وكان على رأس سيارات الحماية قائد الكتيبة وعناصره. كان مقر المعسكر عبارة عن مؤسسة حكومية توقف فيها عمل الموظفين ككل المناطق "المحررة". لفت انتباهي، عند دخولنا، الغبار المتراكم على أجهزة الحاسوب والمكيفات والمقاعد وكل ما في المؤسسة، فلم يلمس أحد من عناصر الكتيبة أي قطعة موجودة في معسكرهم.
كان علي أن أمكث في معسكرهم وألا أعود إلى الكتيبة الأولى لأن الوقت كان قد تأخر ولن يكون بوسعي إنهاء المقابلات بسرعة والعودة كما وعدت. أخبرت قائد الكتيبة الذي رافقني بذلك. حزن الرجل كثيرا، لكنه أكد لي أنه سيخصص بعض العناصر لمرافقتي في اليوم التالي لحمايتي في مظاهرة الغد.
اجتمعنا بقائد الكتيبة الجديدة وفوجئت بأنه خريج كلية الإعلام، كما أن معظم عناصر الكتيبة من طلاب الجامعة؛ ومنهم الموظفون في دوائر الدولة ومنهم المنشقون عن الجيش النظامي أيضا. دارت أحاديث كثيرة بيننا عن الثورة وعن كتيبتهم وقمت بإجراء مقابلات مع بعض عناصر الكتيبة من الجامعيين والمنشقين وكذلك مع قائد الكتيبة. وسهرنا في فسحة خارجية نتبادل أطراف الحديث وهم يقدمون ضيافتهم من الشاي والقهوة والكرز والبطيخ باستمرار، بينما يروي كل منهم قصة انشقاقه عن الجيش أو أسباب تركه لحياته الجامعية والانضمام إلى الجيش الحر. أخبرتهم أني ألبس هذا الزي الحالك للمرة الأولى في حياتي وأنه كان شرط "عادل" ابن المنطقة علي لاصطحابي إليهم. لكن أحدا منهم لم يهتم بكلامي.
هنا طرحت عليه ما يتناقله الإعلام الرسمي وخصوم الجيش الحر من اتهامات، وقلت لقائد الكتيبة يبدو أن موارد المنطقة محدودة، فهي ليست حدودية كي تستفيدوا من عمليات التهريب كما أنها تخلو من المنشآت الصناعية، فكيف تمولون أنفسكم ككتيبة عسكرية مكونة من أبناء المنطقة؟. حدثني الرجل عن "الغنائم"، فقوانين الكتيبة "تقوم على المفاهيم الإسلامية والغنيمة مشروعة لنا"، حسب قوله. سألته أيضا عن عمليات السطو والمداهمة لحواجز الجيش والأمن وما يتردد عن تصفيات لأشخاص يعملون مع مؤسسات النظام فقال: "عند الاشتباك نحاول أن نغنم أكبر عدد ممكن من الأسلحة والذخيرة لنقوي بها كتيبتنا. وإذا اعتقلنا عنصرا من جيش الأسد أو من الأمن لا نقوم بتصفيته إلا إذا ثبت تورطه بسفك دماء السوريين بيديه".
بعد ذلك اصطحبني قائد الكتيبة إلى الغرفة المخصصة لي كي أنام فيها. استلقيت على فراشي وأنا أفكر بهذه الأجوبة وهذه الوجوه الشابة وبـ "أنس"، أحد المنشقين، الذي حدثني كثيرا عن قصة انشقاقه المؤلمة. وكان من المفروض أن أجري لقاء معه إلا أن كثرة النقاشات وتأخر الوقت حالا دون ذلك. وبعد ساعتين كان علينا النهوض لاحتساء فنجان من القهوة والتوجه إلى المدينة والتحضير لمظاهرة الجمعة.
عدنا للمدينة وكان بانتظاري عنصران لمرافقتي من الكتيبة التي زرتها في البداية. تمركزت في إحدى المباني ومع انتهاء صلاة الجمعة بدأ التكبير وأخذت حشود المتظاهرين تتجمع وتتكاثر من مختلف الجوامع. بعد نصف ساعة من التجمع هاجمت قوى الجيش والأمن المظاهرة وانقلبت المدينة الهادئة المسالمة إلى جحيم. كان صوت المدافع والقناصة يملأ الآذان، بينما كان صوت التكبير يعلو أيضا. وبدأت مداهمة المنازل ثم تدخل الجيش الحر وحدثت مواجهات دامية مؤلمة. وبعد ثلاث ساعات تمكن المرافقون من "تهريبي" إلى مكان آمن أكملت منه مقابلاتي. وبينما كنت أسمع بمرور كل ثانية صوت انفجار أو سقوط قنبلة أو قذيفة، كانت مقابلاتي تدور في جزء منها عن سلمية الثورة.
كان علي العودة، لكن المنطقة حوصرت تماما ومن يوصلني إلى حلب "المحافظة" تكون حياته مهددة بتفجير أو في أحسن الأحوال سيتعرض للتفتيش، فمعي ملفات تهدد النظام وتتحداه، لكنهم لم يأبهوا بذلك. وبحلول منتصف الليل، وفيما كانت المواجهات مستمرة وأنا أهم بالرحيل، سمعت من مكبر الجامع نبأ "استشهاد أنس". صعقني الخبر، فبالأمس كنت أجلس معه لإجراء مقابلة معه لكني لم أفعل.
روشن محمد، صحفية سورية تقيم في دمشق
مراجعة: أحمد حسو