وجهة نظر: وجه قبيح لشرق أوسط جديد
١٢ أغسطس ٢٠١٤لم يمر وقت طويل على الأحداث التي غيّرت العالم العربي، والتي احتفى بها العالم كحركة تحرير للمضطهدين من طغاتهم. وطغت عبارات مثل "ثورة الياسمين" و"الربيع العربي" و"ثورة الفيسبوك" على عناوين الصحف الرئيسية في الغرب، التي مضت إلى الإعلان بنوع من النشوة عن قيام شرق أوسط "جديد" أكثر ديمقراطية وتعددية.
كما جالت صور الشباب العربي المتحضر الذي يتظاهر بسلمية أرجاء العالم، و"أسلحتهم" الوحيدة كانت الإنترنت والمدونات والشبكات الاجتماعية مثل "فيسبوك" و"تويتر". ولا ننسى الصورة الشهيرة لمتظاهرين مسلمين في ميدان التحرير بالقاهرة يؤدون الصلاة ويحميهم رفاقهم الأقباط من هجمات عناصر الأمن. إن القناعة والحماسة التي قاتل بها هؤلاء الشباب من أجل الديمقراطية والحرية وكرامة الإنسان والتسامح، إضافة إلى تفاؤلهم وشجاعتهم في مواجهة أنظمة قمعية كانت كلها مشاعر حقيقية لا غبار عليها، جعلتني شخصياً – كمواطن ألماني عربي – أشعر آنذاك بالفخر.
يمكن تفهم شعور الكثير من المعلقين والمحللين في أوروبا عندما بدؤوا يؤرخون لنشأة شرق أوسط "جديد"، حتى وإن لم يكونوا قادرين آنذاك على تحديد ماهية هذا الجديد بالضبط. لكن السرعة التي سقطت بها أنظمة قمعية قوية تباعاً، مثل تلك الحاكمة في تونس ومصر واليمن، كانت صادمة وبدت وكأنها تؤذن لمرحلة حاسمة في المنطقة.
ما الذي بقي من كل ذلك؟ ليس الكثير، إن لم يكن العكس أيضاً. بالفعل، لقد حصل الشرق الأوسط على وجه "جديد"، إلا أنه وجه بشع بكل اسف آفاق مظلمة للعالم العربي لم يشكل هذا التغير عودة إلى الواقع وحسب، بل وبدأ يتخذ توجهاً قمعياً أيضاً يزداد سوءاً كل يوم. بدأ هذا التطور بالمواجهات المسلحة في ليبيا، التي حسمها فقط تدخل حلف شمال الأطلسي عسكرياً، ووصل إلى أوجه في سوريا، التي تحولت الثورة فيها إلى حرب أهلية دامية حصدت، وما زالت تحصد، الأرواح حتى اللحظة.
وبينما يخيم الظلام وترقب المجهول على العالم العربي، بدأ المتظاهرون السلميون الذين أطلقوا "الربيع العربي" يجدون أنفسهم على هامش الأحداث، بل وباتوا في بعض الأحيان يقبعون في السجون. وبدلاً من ذلك، أصبحت الحروب الأهلية والتطهير العرقي والتدمير السمة السائدة. وفي عدد من دول المنطقة، بدأ مسلحون ملتحون وبشهوة متوحشة للقتل يوجهون الأحداث. ففي سوريا والعراق، يسيطر مقاتلو ما يسمى تنظيم "الدولة الإسلامية" على مناطق تزيد في مساحتها عن دول بأكملها مثل الأردن أو لبنان. كما يقومون بإرهاب كل من لا يقبل بالخضوع لـ"دولة الخلافة" التي أقاموها، والتي لا تعدو كونها غطاءاً لنظام من الإرهاب والرعب المبني على قواعد شبه تتستر بالدين.
إن تبعات هذه التطورات مريرة، فالشرق الأوسط الذي كان أشبه بلوحة فسيفسائة ومعروفا بتعددية ثقافاته وعرقياته وتقاليده الدينية. لكن في الوقت الراهن باتت خطوط التقسيم أكثر وضوحاً، وهو لا يقسم الجغرافيا للمنطقة فحسب، وبل والبشر أنفسهم ويجعلهم يقاتلون بعضهم البعض. لقد اختفت تلك الصور التي تظهر الأقباط وهم يحمون رفاقهم من المسلمين أو العكس، وبدلاً منها صرنا نرى صور الإعدامات الجماعية وتدمير المراقد الدينية الشيعية وتهجير المسيحيين والإيزيديين من أماكن سكناهم في العراق وسوريا بالقوة، إذ فرّ الآلاف منهم إلى أوروبا والولايات المتحدة.
ما نعيشه الآن هو أحد أكثر الفصول ظلاماً وحزناً في تاريخ الشرق الأوسط الحديث – تاريخ عاش في معظم حقباته السنة والشيعة والمسيحيون والإيزيديون ومكونات كثيرة أخرى جنباً إلى جنب في سلام معظم الوقت، رغم الحروب والصراعات وموجات النزوح والهجرة.
نتيجة مدمرة لـ"الربيع"
بالإجمال، فإن تلك نتيجة مدمرة لـ"الربيع العربي"، لاسيما وأن المشاكل الرئيسية التي أفضت إلى تلك التغييرات، لم تُحلّ، ولو جزئياً على الأقل، إلى الآن. في مصر، مثلاً، وعلى الرغم من أن الشعب المصر كان يتوق دوما إلى رجل قوي، إلا أن "المشير" عبد الفتاح السيسي يبدو أنه لن يتمكن من العبور ببلاده إلى أي مستقبل ديمقراطي، مثله مثل سلفه الذي أطاح هو به، الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، محمد مرسي.
وماذا عن بقية العالم؟ لم يلق "الربيع العربي" لدى الأنظمة الشمولية في روسيا والصين أي ودّ، بينما اتبعت إيران منذ البداية سياسة الدعم المنتقى ووقفت وراء الانتفاضات التي خدمت أيديولوجياتها ومصالحها في المنطقة. من جانبه، عاد الغرب مجدداً للسعي من أجل إعادة الاستقرار بأي ثمن ممكن، بدلاً من تقديم دعم فاعل للديمقراطية والتعددية السياسية، مدفوعاً في ذلك بالتهديد في صورة التنظيمات الإرهابية كـ"الدولة الإسلامية". لكن يجب عدم تجاهل حقيقة أنه، ورغم التعاطف الظاهر مع "الربيع العربي"، لم يغير الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، من سياسته تجاه المملكة العربية السعودية، التي يحكمها أحد أكثر الأنظمة قمعية في المنطقة.
من منظور عربي، فإن الشكوى من ذلك أمر مبرر، إلا أنه لا يساعد على الخروج من المأساة الحالية. الأمر بات الآن مرهوناً بشعوب العالم العربي، فنخبهم السياسية عاجزة وليست مستعدة للقيام بالتغييرات اللازمة. لذلك، ينبغي بشكل عاجل ألا يكون هناك تغيير في الأجيال وحسب، بل وفي العقلية أيضاً. فعلى هذا الجيل الجديد الا يكتفي باتقان التعامل مع الإنترنت ووسائط التواصل الاجتماعي، بل عليه ايضا ان يعمل جاهدا على تنظيم نفسه سياسياً ومجتمعياً بشكل أفضل وأكثر استدامة مما حصل أثناء "الربيع العربي". كما ينبغي على هذا الجيل التوصل إلى عقلية مشتركة بمفرده تمكّنه من من القيام بالإصلاحات اللازمة دون تأجيج الحساسيات الطائفية أو المجازفة بخسارة تلك الإصلاحات بشكل تام للإرهاب.