لقاحات كورونا..أيّ نصيب لـ"فقراء العالم" منها؟
٢٧ ديسمبر ٢٠٢٠تزامناً مع انطلاق حملة التطعيم رسميا في دول الاتحاد الأوروبي، دعا وزير الخارجية الألماني للتفكير خارج الحدود الوطنية فيما يتعلق بلقاحات فيروس كورونا المستجد. وفي تصريحات لوكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) يقول هايكو مايس إنه "صحيح أن الأمر يتعلق حاليا في البداية بعدالة التوزيع في بلدنا"، إلا أنه لابد في الوقت ذاته من الانتباه "بأن لا يتم قطع إمدادات اللقاح عن مناطق بأكملها".
"لن يكون كل واحد منا بأمان إلا إذا كنّا جميعا على مستوى العالم بمأمن من هذا الفيروس"، يشدد وزير الخارجية الألماني. تصريح مشابه كان الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير قد أطلقه منتصف العام الجاري مشدداً على ضرورة "ضمان سبل وصول اللقاح" إلى الدول الفقيرة. وبعده بابا الفاتيكان الذي طالب في عظته عشية عيد الميلاد قبل يومين بتقاسم اللقاح معتبراً أنه لا يمكن القضاء على الوباء إلا "جميعاً"، فالبشرية "على متن قارب واحد" والفيروس "لا يعترف" بالحدود الوطنية.
تعهدات سقطت على حلبة السباق
في حقيقة الأمر كان هذا التوجه حاضراً في سياسات الدول الغنية منذ بداية الجائحة، على الأقل على المستوى الظاهر، ففي تشرين ثان/نوفمبر الماضي سارعت دول مجموعة العشرين التي تضم أكبر قوى اقتصادية في العالم بما فيها ألمانيا، إلى تبني هذا المطلب رسميا. لكن وبعد اكتشاف اللقاحات لم تترجم هذه التعهدات على أرض الواقع، بل انطلق سباق محموم لتأمين أكبر قدر من الجرعات وطنياً دون الاكتراث بوعود قُطعت. وهو مشهد يذكر بما حدث عند بداية الجائحة حين "تحاربت" الدول فيما بينها لتأمين حاجياتها من الكمامات الواقية من الفيروس.
وقد أظهر تقرير لصحيفة صحيفة "لوس انجليس تايمز" الأمريكية صدر قبل ثلاثة أيام، كيف أن الدول الغنية وفرت لنفسها جميع الإمدادات العالمية من اثنين من اللقاحات البارزة ضد فيروس كورونا، حيث حجزت ما ينتج منها حتى نهاية عام 2021، تاركة دول العالم ذات الدخل المتوسط تتجه إلى الأدوية الروسية والصينية التي لم تثبت فعاليتها. بينما تواجه الدول الأكثر فقرا فترات انتظار طويلة كي تحصل على الجرعات الأولى من اللقاح، ما قد يؤدي إلى إزهاق مزيد من الأرواح بين المصابين خاصة مع ظهور سلالة متحوّرة من الفيروس بنسبة عدوى تصل إلى خمسين بالمائة عن سابقاتها وفق دراسة بريطانية.
ولم يندهش الخبراء من هذا الوضع لكون أن عدم المساواة في الحصول على اللقاحات ما هو إلا نتيجة متوقعة لنظام صحي عالمي يخضع لحسابات المال أكثر من الاهتمام بسلامة البشر، وينظر إلى اللقاحات على أنها منتجات تجارية طوّرتها حفنة من شركات الأدوية العملاقة وسجلت حقوق الاختراع الخاصة بها باسمها.
"لقاح الفقراء"
أدت الفجوة بين إنتاج اللقاحات وبين الحصول عليها، إلى إطلاق دعوات لاتخاذ إجراءات طارئة تسمح للدول الفقيرة بتصنيع واستيراد أنواع من اللقاح، ليس لها حقوق ملكية فكرية.
وكانت كلّ من الهند وجنوب أفريقيا أول من طالب منظمة التجارة العالمية، برفع قيود حماية الملكية الفكرية عن هذه الأدوية، مثلما فعلت مع الأدوية الخاصة بمقاومة الفيروس المسبب لفقدان المناعة (آيدز)، في خطوة كان لها دور بارز في إنقاذ حياة الملايين في أفريقيا.
بيد أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبريطانيا، الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية، عارضت هذا الاقتراح باعتبار أن تطوير اللقاحات ما كان ليحدث "لولا براءة الاختراع".
موقف دفع منظمات الإغاثة الإنسانية التي تؤيد الدعوة -ووصفتها بأنها "لقاح الفقراء"- إلى دقّ ناقوس الخطر، ففي حال لم تستجب القوى الكبرى لهذا الطلب، فإن "تسعة من بين كل عشرة أشخاص في العديد من الدول النامية لن يحصلوا على اللقاح المضاد لكورونا العام المقبل"، تنقل أول أمس الجمعة، الوكالة الألمانية (د ب أ) عن نيكو لوزياني، وهو من كبار المستشارين لمنظمة "أوكسفام أمريكا" الخيرية الدولية.
ووفق المصدر ذاته، فـ"إذا لم نفعل شيئا، فسنصل إلى أواخر 2022 أو أوائل 2023 قبل أن نقوم بتطعيم حتى نصف سكان دول العالم بدخل منخفض".
تمويل مقابل التزامات سوقية مسبقة
قدمت الولايات المتحدة الغالبية وكذا الاتحاد الأوروبي القسط الأكبر من تمويل مسبق أثناء عملية تطوير لقاح شركة مودرنا وفايزر-بيونتيك. ووقعت اتفاقيات شراء -تعرف باسم التزامات سوقية مسبقة- مع الشركة وأيضا مع شركتي فايزر وبيونتيك، بينما كانت الاختبارات لا تزال تجرى على اللقاحين. وهذه الصفقات قلصت المخاطر بالنسبة للشركتين، وسمحت للولايات المتحدة على وجه الخصوص بتأمين 300 مليون جرعة.
في المجموع أمّنت الحكومة الأمريكية 1,1 مليار جرعة من ستة لقاحات تخضع لمراحل مختلفة من التطوير، وذلك وفقا لما يقوله المركز العالمي للابتكار في المجال الصحي بجامعة ديوك الأمريكية، ومن المتوقع أن تحصل الولايات المتحدة على جرعات تفوق ما تحتاجه لتطعيم جميع سكانها. الشيء ذاته قامت به دول غنية أخرى، مؤمّنة ما مجموعه 2,9 مليار جرعة إضافية في إطار اتفاقيات ثنائية مع شركات الأدوية.
مبادرة "كوفاكس" الأمل المتبقي؟
ووسط مشهد يحكمه "البقاء للأقوى"، تبدو عمليا مبادرة "كوفاكس" الفرصة الوحيدة بالنسبة للدول الفقيرة للحصول على كميات كبيرة من اللقاح في العام المقبل. وهي مبادرة دشنتها منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع عدة منظمات غير ربحية، تسعى إلى تشجيع التوزيع العادل للقاحات عن طريق التفاوض من أجل سعر تفضيلي مع شركات الأدوية، وإعطاء جميع الدول بغض النظر ما إذا كانت فقيرة أو غنية فرصاً متساوية للحصول على اللقاحات.
ووقعت كل دول العالم على هذه المبادرة، باستثناء الولايات المتحدة، وذلك لضمان الحصول على اللقاحات في حال فشلت الصفقات الثنائية مع شركات الأدوية.
وتقوم هذه المباراة على جمع معونة من الدول الأعضاء، وأسهمت حتى الآن في الحصول على نحو 2,4 مليار دولار، غير أن المسؤولين عن المبادرة صرحوا بالحاجة إلى 4,6 مليار إضافية، أي إلى نحو ضعف المبلغ المحصّل عليه.
وحتى وإن توفرت المبالغ كلّها، فلن يتم تلقيح سوى 20 بالمائة من سكان كل دولة بنهاية عام 2021، وهذه النسبة لن تكون كافية في بعض الدول كالمكسيك أو البرازيل التي تعاني من تفشٍّ حاد للفيروس، تقول "أوكسفام أمريكا".
وما زاد الطين بلة أن دولاً غنية قوضت مبادرة "كوفاكس" بتوقيع اتفاقيات جانبية مع شركات الأدوية، مما يقلص كميات اللقاحات المتاحة. لكن ذلك سيكون له أثر عكسي. فقد حذرت دراسة لمؤسسة البحث والتطوير الأمريكية (راند)، في حال احتكرت وخزّنت الدول الغنية والمنتجة للقاحات على الجرعات اللازمة لمقاومة الجائحة، فمن المتوقع أن يخسر الاقتصاد العالمي 292 مليار دولار، مقارنة بوضع يمكن أن يحصل فيه الجميع على اللقاحات.
ويرى الخبراء أنه "حتى لو حصل جميع الأمريكيين على اللقاح، فسيتعرضون لخسائر اقتصادية ناجمة عن أن اقتصاديات الدول الأخرى لن تكون قادرة على التعافي مرة أخرى". فقد صدق بابا الفاتيكان حين قال "إننا جميعا على قارب واحد".
و.ب/م.س (د ب أ، ك ن أ)