لا للوحدة الوطنية القسرية
٣ يوليو ٢٠١٤حان الوقت لمواجهة الحقيقة بكل ما فيها من مرارة وقبح، الحقيقة المرة هي أن "الوحدة الوطنية" التي كنا نتغنى بها طوال 93 عاماً، وهو كل عمر الدولة العراقية الحديثة، كانت وهماً وخدعة أشبه بثياب الإمبراطور الجديدة.
لم يكن الشعب العراقي يوماً موحداً بالإرادة الحرة لمكوناته، بل كانت هذه "الوحدة" مفروضة عليه بالقوة الغاشمة من الأنظمة الدكتاتورية التي حكمت العراق عبر عصور. ولما امتلك الشعب العراقي إرادته الحرة لأول مرة بعد تحريره من النظام البعثي الفاشي عام 2003، صار بإمكان العراقيين أن يفكروا ويعربوا عن أنفسهم بمنتهى الحرية، فاكتشفوا الحقيقة المرة، وهي أنهم غير متجانسين، ولا موحدين، ولا يريدون العيش في دولة واحدة. فإما أن يحكمهم نظام من المكون السني العربي الذي حكم العراق لوحده طوال قرون، أو الانفصال. فالسنة العرب لا يريدون نظاماً ديمقراطياً يساوي بينهم وبين المكونات الأخرى في الحكم. هذه هي الحقيقة التي ينكرها كثيرون علناً ويؤمنون بها سراً.
"الشروخ في الوحدة الوطنية كانت موجودة منذ قرون"
بعد 9/4/2003، ان تفجر الوضع بتمردات لمنظمات إرهابية معظمها من المكون العربي السني ضد المكون الشيعي، تدعمها فتاوى مشايخ الوهابية السعودية لقتل "الشيعة الروافض الصفويين"على حد تعبيرهم، تحت يافطة "المقاومة الشريفة" ضد "المحتل الغاشم"، ولكن الضحايا كانت دائماً الشيعة. والاستثناء هنا هو جيش المهدي الشيعي الذي كان ضد القوات الأجنبية وبدعم من إيران، ولم يكن يوماً ضد السنة إلا في الحالات الدفاعية النادرة يوم هدد الإرهابيون بإفراغ بغداد من الشيعة، وبعد تفجير ضريح الإمامين العسكريين في سامراء بغرض إثارة الشيعة ضد السنة وإشعال حرب طائفية لا تبقي ولا تذر.
ولما انكشفت للعراقيين هذه الحقيقة المرة عن الوحدة الوطنية الهشة والمزيفة، هالهم الواقع البشع وراحوا يستنكرونه، وفي نفس الوقت يبرؤون أنفسهم من هذه البشاعة، فألقوا اللوم على أمريكا والحاكم المدني لقوات الاحتلال بول بريمر، أنه هو الذي جلب علينا الطائفية المقيتة وفرض علينا نظام المحاصصة الطائفية والعنصرية البغيضة!
بينما الحقيقة أن هذه الشروخ في الوحدة الوطنية كانت موجودة منذ قرون ولكنها كانت مغطاة بطبقة سميكة من الأصباغ و ورق الحائط (Wallpaper)، أما دور أمريكا فينحصر في كونها جلبت الديمقراطية والشفافية التي من شروطها مشاركة جميع مكونات الشعب العراقي في الحكم، فأزالت هذا الغطاء السميك، أو ورق التوت عن عورات العراقيين، فظهروا ربي كما خلقتني، وبدأت بينهم الصراعات الدموية ورضي سكان المناطق السنية أن يجعلوا من مناطقهم حواضن للإرهاب.
ميراث البعث الطائفي
قد يعترض البعض ان "الفتنة كانت نائمة ولعن الله من أيقظها " كما في الحديث، ويلعنون أمريكا أنها هي التي أيقظت الفتنة. ولكن الحقيقة التي ينكرها هؤلاء، هي أن الذي أيقظها ليس الأمريكان، وإنما حكم البعث الصدامي يوم رفع شعار (لا شيعة بعد اليوم)، وملأ العراق بالمقابر الجماعية من الشيعة والكرد، وقام بحملات الأنفال وحلبجة، وحرق آلاف القرى الكردية، وتصحير مناطق الأهوار في الجنوب. وما قام به بول بريمر هو أن شارك كل مكونات الشعب في حكم بلادهم ولكل مكون حسب ما تفرزه صناديق الانتخابات، وهذه هي الديمقراطية. ولكن قادة السنة العرب لم يوافقوا على الديمقراطية و نتائج الانتخابات، ولسان حالهم يقول: نحن مع وحدة العراق في دولة واحدة ولكن على شرط أن نحن نحكمكم وإلا نبيدكم. فالسنة مازالوا يعتقدون أنهم وحدهم يحق لهم حكم العراق، أما بقية المكونات فهم مواطنون من الدرجة الثانية.
لذلك لجأوا يعد 2003 إلى الكذب وحملات التسقيط البشعة ضد الحكومة المنتخبة ووصفوها بالفساد والعمالة لإيران، وصدق كثيرون بهذه الأكاذيب إلى حد أنه أصبح حتى مجرد الشك فيها عملية انتحارية لأي كاتب يحترم عقله. وهنا أود أن أذكر القراء من جيلي، بالحملة التسقيطية التي شنها البعثيون في الستينات ضد طاهر يحيى، رئيس الوزراء في العهد العارفي، فألصقوا به شتى الألقاب البذيئة مثل: (أبو فرهود، وحرامي بغداد، وعلي بابا وأربعين حرامي...الخ). وبعد فوات الأوان أثبت الباحث الأمريكي (من أصل فلسطيني)، حنا بطاطو في كتابه القيم (تاريخ العراق) وهو دراسة أكاديمية ميدانية، أثبت أن جميع تلك التهم كانت ملفقة من البعثيين ولا أي أساس لها من الصحة. ونفس الدور يلعبه البعثيون منذ إسقاط حكمهم الجائر في 2003 وإلى مستقبل غير منظور، يواصلون نشر الأكاذيب حول الفساد وعمالة المالكي لإيران. ولجأوا إلى تأجير شركات العلاقات العامة (PR) في أمريكا لتشويه صورة حكومة المالكي واختلاق مظلومية المكون السني والكردي من قبل الحكومة "العميلة لإيران التي يهيمن عليها الشيعة" كما يرددون باستمرار.
الخلطة الجديدة ( داعش والبعث)
داعش المنشقة من القاعدة، ويقودها ضباط بعثيون، هي أقوى بكثير من القاعدة وأشرس منها في ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية إلى حد أن أدانها أيمن الظواهري، خليفة بن لادن في زعامة القاعدة. فعملية التخلص من القاعدة عام 2006-2007 تطلبت جماعة الصحوة التي بلغ عدد مسلحيها نحو 25 ألف مقاتل، وأرسل الرئيس بوش قوة عسكرية قوامها 50 ألف جندي أمريكي إضافة إلى وجود 130 ألف جندي أمريكي في العراق آنذاك ليكون مجموع القوات الأمريكية نحو 180 ألفاً، بالإضافة إلى الجيش العراقي الجديد.
وبهذه الإمكانيات الكبيرة فقط تم القضاء على القاعدة، بينما الوضع يختلف الآن، فداعش أقوى من القاعدة في العراق حيث تضم في صفوفها نحو 10 آلاف مقاتل مدرب أحسن تدريب، ومجهز بأحدث الأسلحة الفتاكة، ومدعومة من السعودية وقطر وتركيا، والقوات الأمريكية غير موجودة، والصحوة لن تعاد، لذلك لا يمكن للقبائل السنية التخلص من داعش فيما لو أرادوا. ويستنتج الباحث أن السنة يقومون الآن بعملية انتحارية. وأن قادتهم أخطأوا حين خدعوا السنة بأن المالكي دكتاتور أسوأ من صدام ...الخ، وأنه همش السنة، وبذالك فإنهم وقعوا على شهادة وفاتهم. ومسؤول آخر في وزارة الخارجية سابقاً، يدعى بيتر فان بورين، قال أن ما ذكره ماغواير (عن قدرات القبائل السنية وإمكانياتها في إسقاط المالكي عن طريق داعش، ومن ثم التخلص من داعش أنه "مجرد تطرف في الوهم."، أي أضغاث أحلام.
"هل السنة حقاً مهمشون ؟ "
راحوا يرددون الكذبة المفضوحة بأن السنة العرب مهمشون ومقصيون من قبل "الدكتاتور المالكي العميل لإيران". وصدق سياسيون في البيت الأبيض هذه الأكاذيب، أو تظاهروا بتصديقها، ومنهم الرئيس أوباما، ووزير خارجيته جون كيري، فطالبوا بتشكيل حكومة أكثر تمثيلاً للسنة والكرد، فهل حقاً هناك إقصاء وتهميش في حكومة المالكي الحالية، والقادمة التي ستشكل في الدورة البرلمانية الجديدة؟ وقد تطرقت إلى هذا الموضوع وفندت هذه الفرية في مقال لي بعنوان (التهميش وثياب الإمبراطور الجديدة).
و" في دراسة أجراها باحث لبناني هو الأستاذ الجامعي أمين حطيط، حول التركيبة السكانية العراقية ومقارنتها بخريطة توزيع الحكم، يستنتج الباحث أن نسبة العرب السنة في العراق لا تتعدى الـ19 % في حين ان نسبة مشاركتهم في المناصب تبلغ 26 % فيما يشاركون بنسبة الثلث في الرئاسات الثلاث. أما إذا أخذنا بالاعتبار كل السنة (عربا وكردا) فستكون مشاركتهم أكثر من النصف".
فماذا يجري الآن في العراق؟ لقد فشلوا في إسقاط المالكي عن طريق صناديق الاقتراع، لذلك سبقت إعلان نتائج الانتخابات، حملة إعلامية عالمية واسعة وتصريحات قادة سياسيين عراقيين مثل السيد مسعود بارزاني، وأياد علاوي والنجيفي وغيرهم، تهيئ الرأي العام لما يجري الآن في العراق، فأشاعوا فكرة مفادها أنه إذا ما فاز المالكي بالولاية الثالثة فإن العراق سينقسم إلى ثلاث دول. وهذا التهديد هو اعتراف صريح بعدم إيمانهم بالديمقراطية. لذلك ما أن اعلنت النتائج بفوز المالكي حتى وجاءوا بداعش الإرهابية لتنفذ لهم المهمة القذرة بعزل المناطق العربية السنية عن سيطرة الحكومة المركزية. أما إقليم كردستان فو مستقل منذ عام 1990. ومما يؤلم أن البعض من أدعياء الديمقراطية راحوا يصفون داعش بالثوار، وأن أهل الموصل رحبوا بهم أجمل ترحيب، نافين ما ارتكبته داعش في محافظة نينوى من جرائم فضيعة ضد السكان، وتدمير المعالم الحضارية عن تاريخ وادي الرافدين (ميزو بو تيميا).
"أنهم يريدون ضرب الديمقراطية ونتائج الانتخابات"
واستغل الشركاء في العملية السياسية بالمطالبة بتشكيل (حكومة الانقاذ). وهذا يعني أنهم يريدون ضرب الديمقراطية ونتائج الانتخابات عرض الحائط، وتشكيل حكومة غير منتخبة فرضتها داعش التي تضم في صفوفها مقاتلين مرتزقة من الشيشان وباكستان وأفغانستان والسعودية وغيرها، بعد أن أخضعوهم لعملية غسيل الدماغ، فحولوهم إلى وحوش كاسرة وقتلة مجرمين مهووسين بالجنس والجنة وحور العين، يريدون أن يفرضوا إرادة هؤلاء المجرمين على إرادة الشعب العراقي التي عبر عنها عبر صناديق الاقتراع. في الحقيقة إن (حكومة الانقاذ) هذه هي انقلاب على الديمقراطية. لذلك حسناً فعل السيد نوري المالكي عندما رفض هذا الطلب المخالف للديمقراطية. ولما تأكدت أمريكا أن الرأي العام العراقي يرفض مقترح حكومة الانقاذ التي طالب بها و روج لها السياسيون الداعمون لداعش، غيرت إدارة أومابا موقفها، إذ جاء في تصريح للخارجية الأمريكية أن: "اكدت الولايات المتحدة الامريكية، اليوم الخميس (26/6)، رفضها لتشكيل حكومة طوارئ في العراق ودعت الى الاسراع في تشكيل حكومة شاملة في اسرع وقت ممكن طبقاً للدستور."(5)
ما العمل وما الحل؟
أقترح، وبعد أن تطهر القوات العراقية الباسلة العراق من رجس مرتزقة داعش، وبعد تشكيل الحكومة الجديدة طبقاً للدستور، أن يجرى استفتاء شعبي لكل مكونات الشعب العراقي، وبمساعدة الأمم المتحدة، والولايات المتحدة، وتحت إشراف دولي، فيما إذا كانت هذه المكونات والأطياف تريد العيش في دولة واحدة أم ثلاث دول، (دولة للكرد ودولة للسنة العرب، ودولة للشيعة). ويجب تنفيذ نتائج الاستفتاء بالطرق الحضارية بعيداً عن العنف وبمساعدة دولية لتحديد الحدود وحسب رغبات السكان في المناطق المتنازع عليها. فإذا كانت الوحدة الوطنية في دولة واحدة غير ممكنة، فليس من الحكمة فرضها بالقوة. فالوحدة القسرية تشبه الزواج القسري الذي هو نوع من الاغتصاب. فالطلاق رغم أنه بغيض، إلا إنه ابغض الحلال الى الله.