"في الفضاء تتلاشى الحدود الجغرافية بين الدول والحدود الثقافية بين البشر"
١٧ ديسمبر ٢٠٠٩منذ فجر التاريخ، جذبت السماء الإنسان بما فيها من نجوم وشمس وقمر، فحلم طويلاً في أن يستكشف هذا الفضاء الخارجي وأن يعرف ما فيه من أسرار. وتجسد هذا الفضول في بداية الأمر في الأساطير التي تداولتها الشعوب. كما حلم كثير من الكتاب والأدباء منذ العصر الإغريقي بالوصول إلى هذا العالم المجهول. ومثل هؤلاء الكتاب، حلم توماس رايتر، ومنذ أن شاهد في طفولته الخطوات التي خطاها نيل أرمسترونج على سطح القمر في عام 1969، بخوض هذا العالم الجديد. وقد سمح التقدم العلمي الذي وصلت إليه الإنسانية بتحويل حلم رايتر إلى حقيقة، لكن ليصل إلى هذا الهدف كان عليه أن يتعلم الكثير.
فعالم الفضاء عليه التمكن من الكثير من العلوم، قبل السفر إلى الفضاء، ورايتر يشدد على أن رائد الفضاء لا يتدرب فقط على التعامل مع انعدام الجاذبية، لكن عليه أيضاً أن يدرس علوماً كالفيزياء والهندسة والطب أحياناً. ويضيف في هذا الإطار: "كل مهمة نقوم بها تتطلب تحضيراً ضخماً، وبالتأكيد هناك كم ضخم من المعلومات التي يجب أن يتمكن منها المرء قبل السفر للفضاء، فنحن لا نتعلم تشغيل الأجهزة فقط، بل علينا أن نكون قادرين على إصلاح ما يمكن أن يحدث بها من خلل". ويضيف رائد الفضاء الألماني رايتر في حديث لدويتشه فيله أنه من المستحيل توقع كل ما يمكن أن يحدث في الأجهزة من أضرار، وهو ما يجعل في رأيه هذه المهمة مستحيلة بالنسبة للآلة، فالآلة لا تتعامل إلا مع ما تتوقعه، على عكس الإنسان الذي يتمتع "بقدرة غير عادية على التأقلم".
كيف يقضي رائد الفضاء أوقات فراغه؟
يستطيع الإنسان أن يستغل كل ما تعلمه من علوم منذ طفولته ويحاول توظيفه لحل أي مشكلة يقابلها، كما أن الإنسان قادر أيضاً على التأقلم والتعامل مع أشخاص من ثقافات مختلفة، الأمر الذي يعد عاملاً أساسياً في مهمات الفضاء كما يؤكد رايتر، الذي قضى نحو سنة من عمره في الفضاء الخارجي، منها ستة أشهر قضاها في محطة الفضاء الدولية مع زميل روسي له، وهو يصف تلك الفترة قائلاً: "في البداية كنت أخشى من التواجد في مكان ضيق لفترة طويلة مع شخص غريب عني، وكنت أتوقع أن تحدث بعض المشاكل بيننا. لكن لم يحدث أي خلاف، ونشأت بيننا صداقة مازالت قائمة حتى الآن. وأنا أعتقد من خبرتي خلال رحلاتي في الفضاء أن الاختلافات الثقافية تتلاشى هناك ونتحول لأسرة. فنحن نعمل كفريق عمل واحد بغض النظر عن الجنسية أو الانتماءات، وهو من الأشياء الرائعة في هذا العمل، أنه يؤدي إلى التقريب بين الشعوب".
وتتلاشى الاختلافات الثقافية وسط اليوم المزدحم لرائد الفضاء، الذي يعمل دون كلل، فجدوله مزدحم للغاية ومحسوب بدقة وتأخر أداء إحدى المهام قد يسبب مشكلة كبرى. ولذلك، كثيراً ما يختار رواد الفضاء التنازل عن وقت فراغهم اليومي، الذي لا يزيد عن ساعة واحدة، لإتمام ما لم يتمكنوا من إنجازه في أثناء اليوم. لكن هذا لا يمنعهم من التمتع ببعض الوقت في عطلة نهاية الأسبوع بعد إنجاز مهمة تنظيف المحطة الفضائية. وكان رايتر كثيراً ما يحتار في اختيار ما يريد أن يفعله خلال تلك الساعات القليلة، التي يصفها قائلاً: "في يوم العطلة يكون لدي لائحة طويلة لكل ما أتمنى عمله، وتصويره من الفضاء، وكثيراً ما كنت أستغل هذه الأوقات لرؤية شروق الشمس وغروبها، والذي يتكرر في الفضاء كل تسعين دقيقة. ورؤية هذا المشهد الخرافي لا يمكن أن تصيب بالملل. كما أنني كنت كثيراً ما أحاول التمتع بمشاهدة بعض المناطق على كوكب الأرض من الفضاء.. وهو أمر ممتع.. وفي كل مرة عند عودتي، كنت أتساءل لماذا لم أكرس وقتاً أكثر لتلك المشاهدة؟".
ويمكن لرواد الفضاء الاستمتاع ببعض الجولات الفضائية في أثناء أوقات فراغهم، والاستمتاع برؤية كوكب الأرض من الفضاء، والتمتع برؤية أرض لا تقسمها الحدود السياسية، فالأرض من فوق مختلفة تماماً كما يؤكد رائد الفضاء الألماني السابق، وأيضاً متعة التحرك دون أن يتحكم قانون الجاذبية في الإنسان، متعة لا تضاهيها متعة في رأيه.
الرحلات الفضائية مختبرات أبحاث
لكن من المؤكد أن الدول لا تنفق المليارات للذهاب إلى الفضاء للاستمتاع برؤية العالم من الخارج أو الخروج من قانون الجاذبية فقط، إذ أن هناك الكثير من الأبحاث التي تتم في الفضاء. ففي الفضاء يمكن دراسة الكثير من الظواهر الطبيعية التي تصعب أو تستحيل دراستها على سطح الأرض، وقد شارك رايتر في العديد من تلك التجارب، وهو يقول في هذا الإطار: "خلال فترة إقامتي في الفضاء شاركت مثلاً في بعض التجارب لفهم خصائص المواد وهو ما يساعد على معرفة إمكانية استخدامها في بناء الطائرات مثلاً. كما شاركت في عدد من التجارب في مجال الكيمياء والأحياء والطب. فمثلاً مرض هشاشة العظام منتشر بكثرة، لكننا حتى يومنا هذا مازلنا عاجزين عن اكتشاف أسبابه. وبمجرد الخروج من مجال الجاذبية، تتأثر العظام وتفقد الكالسيوم، وبالتالي فالفضاء يعد مكاناً مثالياً لدراسة أعراض هذا المرض لأن هذه العملية تتم بسرعة كبيرة، وهو أمر لا يحدث على سطح الأرض، أو يتطلب سنوات طويلة".
وتمكن العلماء خلال أبحاثهم من اكتشاف طرق جديدة لتشخيص أعراض المرض، واستخدمت نتائج أبحاثهم لابتكار أجهزة يمكن لمرضى هشاشة العظام استخدامها لقياس مدى خطورة المرض لديهم، وما إذا كانوا بحاجة إلى مساعدة طبية فورية. ومازالت تلك الأبحاث مستمرة، وغيرها من الأبحاث التي يقوم بها رواد الفضاء، والتي لا نعرف عنها إلا القليل. فعند الحديث عن رواد الفضاء، تجذبنا أكثر معرفة ما شاهدوه خارج أرضنا، لكن المليارات التي تصرف على تلك الرحلات والمجهودات التي تبذل فيها تهدف أيضاً إلى تحسين حياتنا على الأرض.
الكاتبة: سمر كرم
مراجعة: هشام العدم